الرأي

تسعة رهط..

لا يمكن لمن شاهد الفيلم الأمريكي الأخير «الرهوط الثمانية» إلا أن يصاب بالدهشة للحظة على الأقل، نظرا لعمق المعالجة التي قدمها الفيلم بخصوص فترة غير مشرفة للتاريخ الأمريكي.
يقدم الفيلم صورة عن واقع «السيبة» التي مرت بها أمريكا وجبروت بعض موظفي السلطة والأمن، في تعاملهم مع نوعية خاصة من المجرمين. فأبطال الفيلم كلهم كانوا مركزين على تأمين نقل سيدة متهمة بجرائم قتل بشعة، يساوي رأسها آلاف الدولارات، وكلهم كانوا مهتمين بإيصالها أكثر من تحقيق شيء اسمه «العدالة»، وفي الأخير سيموت أغلبهم في هذا السباق، وسينتهون وسط بركة من الدماء، بينما ستنتهي السيدة مشنوقة في سقف إحدى الغرف، دون أن تتحقق العدالة في الأخير.
المؤسف أن أمريكا لا زالت تعيش على هذا الإيقاع، وهناك مدن وقرى أمريكية، معروفة بتنفيذ أحكام الإعدام سنويا في حق مجرمين قساة، نفذوا جرائم بشعة. تنفيذ هذه الإعدامات تواجهه دائما احتجاجات تقودها حركات حقوقية تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام.
في المغرب، لدينا عتاة المجرمين وأخطرهم أيضا، والله وحده يعلم كيف كانوا يشعرون وهم ينفذون جرائمهم البشعة في حق إخوانهم المواطنين العزّل. الفرق يكمن في الكيفية التي تتعامل بها الدولة مع المجرمين بعد اعتقالهم، خصوصا المحكوم عليهم بالإعدام.
لن نخوض بطبيعة الحال في سر عدم إقدام الدولة المغربية على تنفيذ أحكام الإعدام منذ التسعينات، لأن النقاش في هذا الموضوع سيصبح «بيزنطيا» ما دام المغاربة يشرقون ويغرّبون في كل شيء، ويستحيل أن نتوصل إلى اتفاق حول الموضوع.
ربما يكون السجن المغربي، هو الوحيد في العالم الذي يؤمّن للمعتقلين «القفة»، التي تضمن لهم عيشا هنيئا، أفضل من مصارعة الحياة خارج أسوار السجن. ولا أدري لماذا لم تفكر الدولة إلى اليوم في قطع «القفة» عن المعتقلين، الذين ليسوا كلهم مجرمين بطبيعة الحال، لجعل السجن مؤسسة عقابية وليس «خيرية» يتناقل داخلها السجناء الأمراض والأوبئة، خصوصا إذا علمنا أن هناك سجناء دخلوا السجن بهياكل عظمية هزيلة وخرجوا منه بـ «الحناك» والكثير من الرغبة في العودة لانتظار وصول القفة دون الحاجة للحصول على عمل أو الاندماج الجاد في الحياة.
هل تتعامل السجون بالصرامة الكافية مع المجرمين الحقيقيين؟ وهل يستطيع وزير العدل أن يعترف لنا أن السجون المغربية لا تخلو من الأبرياء؟
ربما يكون السجن المغربي، هو الوحيد في العالم الذي يحصل فيه السجناء على سكاكين «الخضرة» لتقشير الخضار وتقطيع اللحم الذي يأتي في «القفة». كيف يستطيع السجناء النوم إذن، وبينهم أناس نفذوا جرائم شنيعة ذبحوا فيها أقاربهم كما يُذبح الدجاج، يمكن في أي لحظة أن يستيقظوا «لتقشير» زملائهم في الزنزانة تماما مثلما تُقشّر الخضر؟
وسط كل هذه الأمراض الاجتماعية المتفشية، والتي تأتي فيها الجريمة في أبشع صورها، من القرية وليس من المدينة.. لا يمكن للمغربي إلا أن يحس بالحيرة.. ويقلق بشأن هذا النفق الذي يتجه إليه المجتمع. كيف يستطيع شخص أن يذبح أمه وأباه وزوجته وكل من يجده في طريقه في نوبة سعار؟
آلاف المختلين عقليا يتجولون في شوارع المملكة كل يوم، بإمكان أي واحد منهم أن يقدم على حماقة يزهق فيها الأرواح. وملايين من الذين يدخلون في خانة العقلاء، يفاجئوننا بين الفينة والأخرى بقدرتهم الخارقة على أن يصبحوا مجرمين هكذا دون مقدمات..
لقد عدنا إلى أيام السيبة، تلك الأيام التي عاش خلالها المغاربة ما لم يعشه الأمريكيون الذين أخرجوا فيلم «الرهوط الثمانية»، والأكيد أننا نتفوق عليهم في هذا الباب على الأقل، ليس لأن السينما المغربية تستطيع استلهام قصص مرعبة من فترة السيبة، فهي بالكاد تُخرج أي شيء لا يشاهده أحد، لكن لأننا في الثقافة المغربية نتحدث دائما عن «تسعة رهط»، يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
في أحد الأفلام العالمية، قال الرجل لزوجته وهو يهم بالمغادرة نحو المجهول: «إذا لم أعد.. أخبري أمي أنني أحبها». فردت عليه الزوجة مذهولة: «لكن أمك توفيت منذ مدة طويلة..». نظر إليها بدهشة وقال بعد صمت طويل: «.. آه. أوكي. سأخبرها بنفسي إذن».
هذا ما يجب أن يفكر المغاربة في قوله من الآن فصاعدا، ما دام عدد «الرهوط» مرشحا للارتفاع أكثر مما سبق، وما دامت أيام «السيبة» تلوح بالعودة، خصوصا عندما يقل المطر، ويتجبّر «القايد».. ماذا بقي إذن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى