الرأي

تصريف الأقدار وحقائق الأخبار

اجتمعت بعائلة في مونتريال (كندا) تعيش في رغد من العيش عندهم ثلاثة أولاد أصحاء والزوجان في عمر الشباب. قلت في نفسي إنهم لا شك أسعد خلق الله، ولكن جدل الإنسان عجيب، والبيوت لها أسرارها. روت لي المرأة أنها تعاني من كوابيس في النوم وعذابا نفسيا لا تجد حله في الصلاة لا تركا ولا قياما وقعودا. قلت في نفسي إنها العجب، ثم وقعت بين يدي قصة عجيبة آثرت أن أنقلها للقارئ كي يعرف طبائع الأشياء، وتصريفات القدر، وماذا تفعل الأيام.
فقد جاء في كتاب (كليلة ودمنة) أن (آبن آوى) صادق ثوراً جميلاً عرّفه على ملك الغابة الأسد؛ فأعجب الأخير به أيما إعجاب فقربه وأصبح موضع سره؛ فغاظ ذلك ابن آوى، فرجع الى أخيه فقص عليه ما حدث وكيف أن الثور قفز إلى مكان الصدارة، قال إنها تشبه قصة الناسك مع اللص! قال وكيف ذلك؟ قال زعموا أن ملكاً قرَّب إليه ناسكا صالحا، ثم إنه أهداه ثوباً ثميناً نال أعجاب لص يراقب الموقف عن كثب؛ فجاء إليه فقال لقد بلغني نبأ صلاحك، وإنني معاشرك فأتتلمذ على يديك وأنهل من معين فضلك وعلمك، قال حسناً يا بني. حتى إذا أمن له الناسك عمد اللص إلى الثوب فسرقه؛ فلما كشف الناسك ذلك لحقه يطالبه برد الثوب الملكي! عرف الناسك أن اللص هرب من المدينة إلى مكان قصي. ولم يكن بد للناسك إلا أن يحزم أموره فيلحق به، وفي طريق المطاردة مرّ بأجمة، فرأى فيها وعلين يتناطحان، قد نزفا ما فيه الكفاية، وإذا بثعلب قادم شمّ رائحة الدم فأعجبته الرائحة فاقترب منهما، بل وتجرأ فبدأ يلعق مكان الدم، هنا انتبه الوعلان إلى المقتحم الجديد فما كان منهما إلا أن تركا النزاع والتفتا إليه فأشبعاه طعنا بقرونهما فقتلاه! فتعجب الناسك من تتابع الأحداث.
ثم إنه صادف في طريقه ليمسك باللص الهارب أن دخل قرية فاستضافته امرأة عجوز. لاحظ الناسك أن العجوز عندها جارية تعمل عندها بالأجرة، ومما فهم أن الفتاة كانت معلقة القلب بشاب تريد الزواج منه، ولكن العجوز تحول دون ذلك، بقي الناسك ليلته تلك هناك ففوجئ بشاب يطرق الباب وترحب به العجوز فعرف أنه من تحبه الفتاة. وفوجئ أكثر إذ رحبت العجوز بالشاب، وأطعمته لما فوق الشبع ولكنها دست له في الطعام ما يخدره؛ ثم لاحظ الناسك أنها عمدت إلى عود من قصب قد حقنته بسم؛ إذا نفخ في الأنف مات صاحبه ولم يعرف أحد سر الجريمة. كانت الشريرة تريد قتل الشاب حسدا واحتفاظا بالفتاة في الخدمة، ولكن الذي حدث أنها عندما نفخت في عود القصب هيجت أنف الشاب فعطس عطسة قوية ردت السم إلى حلق العجوز فتسممت فماتت هي بدلا عن الشاب. في القرآن آية معبرة عن قانون المكر أنه يرتد على صاحبه، فجاءت الآية تقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. هنا لملم الناسك أغراضه وهرب لا يصدق ما ترى عيناه.
تابع الناسك رحلته فدخل أهل بيت رحبوا به ليكتشف مشكلة من نوع مختلف بين صاحبة البيت وابنتها؛ فالفتاة تريد شاباً تحبه، والأب يرفض ذلك ولا يطيقه.
قال الزوج إنني ذاهب أقضي الليلة مع أصحابي؛ فهرعت الزوجة الى امرأة (الحجام) وهو الحلاق، وكانت وسيطة بينهم؛ فقالت ادع الشاب إلينا نتحدث معه حول الزواج؛ فذهبت وتأخرت بعض الشيء؛ فرجع الزوج واجتمع على الباب مع شاب ينتظر؛ فرابه أمره؛ ودخل البيت في سورة غضب؛ ولما نما لعلمه طرف من القصة بلغ به الغضب درجة أن أوثق زوجته إلى عمود وانهال عليها ضرباً، ثم لما تعب قام فنام؛ فجاءت أثناء هذا امرأة الحجام فرأت صاحبتها موثوقة إلى أسطوانة، فهمست في أذنها ما الخبر؟ فحكت لها غضب زوجها.
هنا اتفقت المرأتان أن تتبادلا الأدوار فقالت المرأة لزوجة الحلاق هلا أخذت موضعي؟ فقيدتك على العمود، وقمت أنا إلى الشاب فحدثته بما جرى ففعلت. بعد فترة استيقظ الزوج يريد حاجة؛ فنادى على زوجته؛ فلم تجب؟ فغضب بأشد من الأول؛ فعمد إلى شفرة حادة في ظلام الليل فجدع أنف زوجة الحجام الموثوقة وهو يظنها زوجته؛ فلما رجعت زوجته فكت صديقتها التي خسرت أنفها خطأ، ثم بدأت في الصراخ على زوجها، أنها دعت الله أن ينقذها من ظلمه؛ فاستجاب لها؛ فرد لها أنفها الجميل. رجعت زوجة الحلاق بدون أنف وأثناء هذا صدف أن كان الحجام يطلب عدته من الزوجة، فلم تحضر له سوى الموسى؛ فلما اشتد بالطلب فلم تجب رماها بالسكين، فولولت أن أنفها قطع، واجتمع الناس وساقوهما إلى القاضي.
احتار القاضي في الحكم وكان الناسك حاضرا هذه المشاهد فتعحب وتدخل وقص عليه ما رآه في سفرته وأن من قطع الأنف ليس الحجام، وأن تسلسل الأمور يقول أن القدر يتصرف بكيفيته الخاصة، ثم ذكر له من بداية القصة مصير الثوب وقصة مصرع الثعلب المتطفل، ثم قصة العجوز والجارية وكيف رسا مصيرها وهي تحاول الأذية وتمنع التقاء المحبين.
قال الناسك أيها القاضي في الحقيقة لا الثوب سرقه اللص، ولا الثعلب قتله الوعلان، ولا السم قتل المرأة، ولا الحجام قطع أنف زوجته. وكل ما حصل هو ما فعلته أيدينا ونحن من نجر البلايا على أنفسنا من حيث لا نشعر ونقدر. في القرآن تعبير بليغ: قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى