الرأي

تعديل دستوري تقني بنفحة سياسية

لعله وزير المالية الأسبق محمد ساغو، من استطاع إقناع مراكز القرار بأن معالم الموازنة المالية تظهر مع بداية الصيف، وليس نهاية الخريف. وإذا كان الوزراء الذين يتحكمون في صبيب الأنابيب التي تغدق على بعض القطاعات وتبخل على أخرى، تركوا بصماتهم على الأوضاع المالية في كل مرحلة. فإن ما حدث على عهد الوزير ساغو اقتضى تعديلا دستوريا، جرى التصويت عليه في استفتاء شعبي.
غالبية الدساتير التي عرفها المغرب أقرت وعدلت بمرجعيات سياسية وقانونية، تخص مظاهر فصل السلط وتركيبة البرلمان الذي بدأ بنظام الغرفتين، ثم عاد إليه بعد استحقاقات تشريعية اعتراها لغط كثير وانتقادات حادة حول ما كان يعرف بـالثلث الناجي» القادم من الجماعات المحلية وغرف التجارة والصناعة والفلاحة ومندوبي المأجورين. وجاء استفتاء العام 1995 مختلفا في مضمونه بإيحاءات تجاوزت الميدان المالي.
محور التعديل كان تقنيا في مظهره العام، إذ نقل إقرار الموازنة العامة التي تشكل روافد الأداء الحكومي، بما في ذلك ترفيع أعداد مناصب الشغل أو الحد منها، وتحديد الأسبقيات بالموارد والأرقام، من نهاية ديسمبر إلى متم دورة أبريل التشريعية. وعزت تحليلات في الموضوع هذا التحول إلى تأثير المحصول الزراعي في تكييف الأوضاع الاقتصادية والمالية.
كان بديهيا أن بوادر المنتوج الفلاحي لا تظهر إلا مع نهاية فصل الربيع، خصوصا إذا كان الموسم ممطرا لم ينحبس فيه غيث السماء. والأكثر أهمية أن معظم التوقعات الاقتصادية والمالية تنبني على عطاء السماء والأرض. فالزراعة أساس الإعمار والاستقرار، إذ تحقق الاكتفاء الذاتي أو ما يقاربه في الغذاء. عدا أنها ارتبطت بتصدير منتوجات الطماطم والبرتقال والزيتون والصناعات الغذائية، بما يكفل تنويع مصادر العملة الصعبة.
بيد أن تعاقب سنوات الجفاف لم يترك المجال واسعا لاستخلاص أن خيار المغرب الفلاحي يواجه إكراهات الطبيعة التي لابد من تطويعها علميا وتكنولوجيا. وانضافت إلى ذلك تداعيات الهجرة المتزايدة من الأرياف نحو المدن، فيما تقلصت المساحات الزراعية أمام زحف الإسمنت، وتغيرت معالم التركيبة الديمغرافية بين المجالين الحضري والقروي.
جسد الانشغال بهذه المسألة محور دراسات وأبحاث ذهبت نحو تقصي تأثير دورة المناخ وندرة المياه الجوفية، وكان من إيجابيات ذلك ظهور جيل جديد من الأبحاث التي تعمقت في ظواهر التقلبات المناخية، ومخاطر زحف التصحر، قبل أن يتنبه العالم إلى تفاقم مشكل الانحباس الحراري الذي كان النقاش حوله خافتا وأكاديميا، يؤرق علماء الطبيعة الباحثين عن أسرار الكون. وجاءت فترة امتزج فيها هاجس المناخ بالرغبة في فرض ضرائب على البلدان المنتجة للنفط، بمبرر تلويث البحار والأجواء. فيما تفرج الناس على أكثر من تجربة علمية وتقنية، همت نقل جبال الجليد من المناطق القطبية المتجمدة إلى الأراضي القاحلة لإرواء ظمأ العطش، من البشر والنباتات والبهائم.
لكن قلائل يعرفون أن خبرة الباحثين المغاربة في الزراعة والمياه، كانت من ضمن العوامل المشجعة التي دفعت العقيد الليبي معمر القذافي إلى التفكير في إنشاء النهر الصناعي، وقد أصبح الآن مجرد أطلال تشبه الأودية التي ينقطع تدفقها من المياه. تماما كما حدث في بلدان عربية مثل العراق والإمارات العربية المتحدة، استقطبت التجارب الزراعية في المغرب مزيدا من الاهتمام.
مرة جاء مبعوث من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين إلى المغرب، كانت المناسبة المشاركة في تدشين انطلاق سد كبير. ونقل عنه القول أمام مسؤولين مغاربة إن بلاد الرافدين التي حباها الله بالنفط والماء تحتاج إلى خبرة المغاربة في فلاحة الأرض، في ضوء ما عرف عن مزارعي المغرب الأقصى من شغف بالأرض ومثابرة في الجهد. وكان من نتاج استقرار فلاحين بسطاء في بلاد الرافدين أن طائرة عراقية حطت يوما بمطار الدار البيضاء، كان على متنها مسافرون مغاربة وعراقيون، لكنها حملت عينة من منتوج زراعي، أراد العراقيون تقديمه إلى المغرب عنوانا للاعتراف بنجاعة التجربة التي كان في وسعها أن تستوعب أعدادا أكبر من الفلاحين، لولا أن الحرب أوقفت هذه النقلة النوعية في مسار علاقات التعاون العربي – العربي، المنطلق من الأرض.
استولت فكرة تعديل الدستور، في نطاق الملاءمة بين قانون الطبيعة وقاعدة الموازنة المالية، على فكر الحسن الثاني. وبدت له أقرب إلى حل سحري لتجاوز إشكاليات التوقعات التي لا تأتي على قدر الأماني. وشد انتباه المغاربة أنه اعترف للمرة الأولى علانية بأن ثقل المشاكل والصعوبات لم يجعل طريق النجاح هينة ميسرة، وقال: «وقع لنا أن رسبنا في بعض الرهانات، ووقع لنا أننا لم نكن في المستوى أمام بعض المشاكل»، بل إنه ذهب في عرض التجارب الانتخابية إلى التأكيد: «يمكن أن يقال أنه وقع في هذا الانتخاب أو ذاك تزوير أو غش»، معتبرا أن ذلك مظهر شكلي، «لا يغير شيئا من الثوابت الدستورية»، على حد تعبيره.
رأى أن اعتماد المغرب على الفلاحة خيار استراتيجي تحفه مخاطر تقلبات الطقس. وبهدف عدم الإغراق في التشاؤم السلبي أو التفاؤل الحالم، اقترح تعديل توقيت إقرار الموازنة المالية بالموسم الفلاحي، في آخر دورة نيابية لشهر أبريل من كل سنة. غير أن الذين يعرفون ولع الحسن الثاني بالرموز، إذ ردد مرات عديدة أن السياسة تشبه الفلاحة، هناك مواسم للحرث وأخرى للحصاد، تتخللها فترات السقي والتهذيب.. أدركوا أن التعديل الدستوري، إن كان يركز على البعد التنظيمي للموازنة، فإنه توقف عند الإعلان عن الخطوة اللاحقة في مسار التعديلات الدستورية.
كانت الطبعة الأولى لمشاورات التناوب قد أخفقت في الوصول إلى وفاق تاريخي. واختار الحسن الثاني مناسبة الإعلان عن تعديل الدستور للحديث عن جيل آخر من التعديلات تشمل تحويل البرلمان إلى غرفتين. وبذلك يكون قد استبق موعد الاستفتاء اللاحق بأكثر من سنة، علما أن ذلك التعديل سيدفع الاتحاد الاشتراكي المعارض للتصويت للمرة الأولى لفائدة الدستور، ما عبد الطريق أمام حكومة التناوب التي قادها الزعيم عبد الرحمن اليوسفي.
إذا عرفنا أن اليوسفي كان غادر البلاد احتجاجا على ما آلت إليه انتخابات الثلث غير المباشر في البرلمان، ندرك جليا لماذا تحدث الحسن الثاني عن إلغاء هذه الطريقة، في وقت كان فيه محور التعديل الدستوري ذا بعد مالي صرف. ولم تنقض فترة أطول لتعود الموازنة المالية إلى طبيعتها السابقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى