الرأي

حمام العيالات

 حنان بنجيلالي

كان الحمام الشعبي شبه خال في هذا «الحر»، إلا من المستخدمات «الكسالات» اللابسات على غير عاداتهن لقلة الزبونات. تعرفت على بعض الوجوه في قاعة الجلوس: امرأة سبعينية -متسولة- لم أتوقع يوما رؤيتها في الحمام، أي عارية، كانت تبدو منهكة، مقسومة الظهر تحمل كيسا بلاستيكيا في يدها يحوي أغراضها، في الركن انزوت شابة عشرينية هي الأخرى تضع ملابسها في كيس بلاستيكي ـ تبيع «الكلينيكس» عندما لا تتسكع مع رفيقها مدمن الكحول «المتشرد»ـ يجتمعان على السكر والبؤس مع رفاق السوء في أزقة الرباط الخلفية.
رأيتها اليوم ترتدي ملابسها وهي ترتعش، رغم أن الجو صيف، من الخلف بدت كطفل متشرد صغير بجسمها النحيل وشعرها الحليق. ألقيت عليها التحية، كانت قد انتهت من الاغتسال، سمعتها تردد مع نفسها أنها نسيت غطاء الرأس، ثم التفتت وطلبت مني خجلة: «ما عندكش شي درة زايدة.. خفت نخرج يضربني البرد..»، أعطيتها «درة حياتي». شكرتني، قبلتني ممتنة وانصرفت. دائما يرق قلبي لحالها، عرفتها عندما كانت طفلة ذات العشر سنوات تتسول رفقة أفراد من عائلتها.
رأيت سيدة ملفوفة في «بينوارها» الفوطي الأبيض، رأتني فابتسمت، إنها بيتي، كانت تعيش بأمريكا، قررت الرجوع بعد طلاقها لتربي ابنها الوحيد بالمغرب. دخلت صالة الجلوس تلهث من التعب، محمرة الوجنتين، تفوح منها رائحة الجيل دوش العطرة. تركت حقيبتي جانبا، وجلست أقابل بيتي التي استلقت على ظهرها فوق المقعد البلاستيكي الطويل، متوسدة حقيبة ملابسها، تحدثني في جو حميمي. كالعادة، تبدو سعيدة بلقائي. أحيانا نلتقي في البيت الساخن، نتبادل أطراف الحديث، وفي الوقت نفسه نكون منهمكات في طقوس الاستحمام، عاريات، ككل النسوة المختلفة أعمارهن وأشكالهن، منهن من تحب طلي جسدها بالحناء، وأخريات يضعن خليطا في الرأس، للعناية بالشعر، حناء، ثوم، أو صباغة.. شابات وطفلات وعجائز ملأن الحمام بأجسادهن المكشوفة، المختلفة، الطفولية الجميلة البريئة، والناضجة، المقبولة منها والمثيرة والمقرفة أحيانا، بسلوك أصحابها..
رأيت فيلما مغربيا تضمن لقطة عري بدت فيها إحدى بطلاته التي كانت تؤدي دور الزوجة، تتحرك عارية في غرفة نومها وهي تحدث زوجها. الفيلم مثلت فيه إحدى الممثلات المعروفات دور الحماة، ربما تبلغ الستين أو ما فوق، حسب ملامح وجهها. لكن ما يجهله زملاؤها في المهنة ومخرج الفيلم وجمهورها، أن جسد الممثلة «العجوز» عاريا يبدو كما لو أنه توقف عن التحول في العشرين. كنت دائما أصادفها في الحمام، حيث تخصص لها «الكسالة» التي تتكلف بغسلها المكان الذي تفضله زبونتها نفس المكان الذي تعودت الجلوس فيه، عندما تطلب مني «الكسالة» بلطف أن أغيره إرضاء لفشوش زبوناتها المفضلات بعد معاودة تنظيف المكان تُفرش السجادات البلاستيكية المزركشة، وتُدور بها العديد من القباب الكبيرة الملونة في شكل نصف دائري.  مرة تصادمت مع امرأة مسنة «عادية» حفر الزمن على جسدها كما يحفر الماء بصمته على الصخر، كانت تغلي من الغضب، لسبب تافه، نهرتني والشرر يتطاير من عينيها، خلتها ستنقض علي، لم أنزعج منها، احتراما لسنها، اقتربت منها مبتسمة اعتذرت لها وقبلتها. هزت يدها مستنكرة ساخرة تقول: «وا ضحكي نتي.. نضحك أنا؟ نتي لي جات معاك للي مازالا صغيرة». نبهتني إلى أمر نسيته.
أوقفتني مرة امرأة داخل الحمام لتسألني إن كنت متزوجة، وهل أرغب في الزواج. بعض الرجال عندما ينوون الزواج يرسلون الخطابة إلى الحمام الشعبي، لتختار لهن خطيبة جميلة، وفق معايير لا يعلمها إلا الزوج والخاطبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى