الرئيسيةخاص

«دولة الجامعة.. السيبة»

الكل يتهم الكل بالوقوف وراء إزهاق أرواح طلبة جامعيين، أغلبهم كانوا يدافعون عن فصيل جامعي ضد آخر، وآخرون لم تكن تربطهم علاقة لا بهؤلاء ولا أولئك. استيقظوا ذات صباح للتوجه إلى المدرجات لتلقي المحاضرات العلمية، وانتهوا في المستشفيات، أو داخل ثلاجة الموتى. المواجهات بين الفصائل الطلابية تستعمل فيها الأسلحة البيضاء، وتحركها المواقف السوداء. طلبة أصيبوا بعاهات مستديمة دفاعا عمّا كانوا يرونه مبدأ يستحق أن يموت الواحد منهم في سبيله.
في المقابل، هناك محاكمات تتم بين الفينة والأخرى ليذكر فيها زعماء الفصائل الطلابية الدولة، بأن دولة الجامعة لا يمكن أن تخترق أمنيا. بينما لحسن الداودي، وزير التعليم العالي، يصر على خطاب توزيع الألواح الذكية والقطع مع عهد الطباشير والسبورة، ناسيا أن الدم الذي بكى بسببه قبل مدة، يمكن أن يتدفق في أي وقت، ما دامت السيوف مدسوسة أسفل المعطف، داخل الجامعة.

عنف الجامعات.. الموت القادم من المدرّجات
عندما وقف خالد بوقرعي، الكاتب الوطني لشبيبة حزب العدالة والتنمية، أسفل قبة البرلمان يوم الثلاثاء الماضي، ليسائل لحسن الداودي، وزير التعليم العالي، وزميله في الحزب أيضا، عن العنف الجامعي وتطوراته، مذكرا إياه بمصير الطالب عبد الرحيم الحسناوي، الذي نظم له الحزب جنازة مهيبة.. سرى أسفل القبة صمت غير عادي، وكأن القائمين على أمور البلاد والعباد، نسوا في ما سبق، أن الجامعة أصبحت فضاء للموت. لم يكن بوقرعي ربما في حاجة إلى أن يذكر الداودي بهذه الأمور، لأن الأخير واجه عاصفة هوجاء عندما توفي طالب جامعي على إثر أحداث مواجهات بين الفصائل الجامعية، ولم يكترث الوزير لوفاته، بينما ذرف سابقا دموعه أمام الكاميرات عندما تعلق الأمر بوفاة طالب محسوب على منظمة التجديد الطلابي.
لم يكن عبد الرحيم الحسناوي أول طالب يلقى حتفه في رحاب الجامعة المغربية على إثر المواجهات التي تقع بين الفصائل التي يتفرق حولها الطلبة، ولا يجتمعون.. وربما لن يكون الأخير أيضا، ما دامت النعرة نفسها تسري في أروقة الجامعة المغربية إلى اليوم.
ظهر المهراز بفاس، وساحة مراكش، وموقع أكادير.. هكذا يسمي المنتمون إلى الفصائل الطلابية، كليات وزارة التعليم العالي، وكأنهم يتحدثون عن ساحات معارك حقيقية وليس فضاء لتلقي العلم. فالخريطة، حسب هؤلاء، تتوزع على مستويات حربية، ولكل جامعة تاريخ من المعارك التي أزهقت فيها عشرات الأرواح، وما زال طلبة الفصائل، بتنوعها، يحيون ذكرى الراحلين إلى اليوم.
المثير في مسألة عنف الجامعات، هو أن لحسن الداودي، باعتباره وزيرا للتعليم العالي، جر على نفسه وابلا من الغضب الطلابي، لأنه سجل على وزارته، أنها ولأول مرة في تاريخها ربما، تتدخل في قضية مقتل طالب جامعي بسبب العنف بين الفصائل الجامعية، ولم يتدخل بعد ذلك في أي قضية أخرى، رغم أن أحداث عنف أخرى عرفتها الجامعة بعد موت الراحل عبد الرحيم الحسناوي.
مدججون بالسيوف والعصي يقتحمون الحرم الجامعي، ويتجولون داخله جماعات، مخافة أن يتعرض فرد منهم لأي هجوم مباغت.
حسب المصادر التي تحدثت إليها «الأخبار» في هذا الباب، والتي راعينا فيها الحديث إلى مصادر من جميع الفصائل الطلابية المعروفة، فإن التوترات التي تعرفها الساحة الجامعية بين الفينة والأخرى، تجعل أفرادها مسلحين بشكل شبه دائم، في فترات التوتر، متجنبين التجول بشكل انفرادي، مخافة ألا يتعرض أحدهم لطعنة غادرة. المصادر نفسها أكدت أن مدن فاس، مراكش، وأكادير، شهدت أكبر عدد للتدخلات العنيفة في تاريخ الجامعة المغربية، وأن عددا كبيرا من شبان الفصائل الطلابية باختلافها، يساريين وإسلاميين، لقوا حتفهم بشكل مأساوي أثناء تجولهم منفردين بين أروقة الجامعة أو محيط وجودها، في وقت التوترات بين الفصائل، إما بسبب الصراع على أماكن عقد حلقيات النقاش، أو تأجيل الامتحانات، أو مجرد خلاف في نقاش الأفكار.
«بيننا وبينكم واد من الدماء» هي العبارة التي يرددها غالبا الطلبة القاعديون والثوريون أيضا، في وجه المحسوبين على تيار العدل والإحسان، أو الذين يشكلون قاعدة شبيبة حزب العدالة والتنمية، متهمين إياهم بالوقوف، تاريخيا، وراء اغتيال عدد من الأسماء، من بينها المعطي بوملي، وأيت لجيد وآخرين.. بينما أكدت مصادر من داخل هذه التنظيمات، أنها لا تلجأ إلى العنف إلا دفاعا عن النفس، وأن المعارك العنيفة التي دارت رحاها بين هذه الفصائل الطلابية كانت محكومة بالظروف السياسية التي تمر منها البلاد.
أن تحاسب الأجيال الحالية بأخطاء السابقين، أمر يبدو غير منطقي، لكن هذا ما يقع في الجامعة المغربية اليوم. التهمة أنهم يتبنون أفكار المتورطين في دماء بعضهم، ويشاركونهم الانتماء، وهذا أمر كاف، حسبهم دائما، لتبادل الاتهامات.. إنه الموت القادم من المدرجات، والذي يبدو أنه لن يتوقف ما دامت التوترات والمواجهات المفضية إلى الموت، قابلة للاشتعال في أية لحظة.

عالم سري من الاغتيالات والعاهات المستديمة
طالب جامعي يلقى حتفه بسبب صراع بين الفصائل الطلابية، وآخر بترت ساقه في صراع بالأسلحة البيضاء في ممر داخل كلية من الكليات التابعة لوزارة التعليم العالي.. هذه عناوين تتكرر كلما تأزمت الأوضاع داخل الجامعات، وكثرت المواجهات بين الفصائل الطلابية في الجامعات الموزعة بين جهات المغرب.
«اليوم إخواني الطلبة سنحاكم هذا العميل والجاسوس على حرمة الجامعة. لقد ألقى عليه بعض الرفاق القبض وهو يحاول تصوير مداخلة رفيقنا.. عندما نقول من داخل الجامعة إن الأسعار أصبحت لا تطاق وإن التعليم يحتضر كل يوم وإن أبناء الفقراء لم يعودوا قادرين على متابعة دراستهم إلا في الجامعة التي تفرخ العاطلين، فإننا ندافع أيضا عن أخ وأخت هذا الجاسوس الذي يعد التقارير التي تؤدي إلى اعتقال الرفاق. عندما سألناه عن سبب قيامه بالتقاط صور لنا لم يقو على الدفاع عن نفسه. اليوم ستتم محاكمته أمام الطلبة، حتى يكون عبرة لكل من تسول له نفسه اقتحام حرمة الجامعة». هذا مقطع بسيط من تسجيل حصلت عليه «الأخبار» لإحدى المحاكمات التي تمت داخل أروقة الجامعة، وتسجيلات أخرى في فترات متفرقة، تجتمع كلها حول موضوع المحاكمات وإبعاد الفصائل الطلابية عن محاولات الاختراق الأمنية، كما جاء في التسجيلات. عند استعراض مضامينها، لرصد أجواء المحاكمات الجامعية، نلمس بالواضح أن الفصائل الطلابية تعيش مستقلة تماما عن الأجهزة الأمنية، وتحاول أن تبقى بعيدة عن الاختراق، رغم أن واقع الحال أثبت أن بعض الفصائل الطلابية، خصوصا خلال سنوات الرصاص، كانت مخترقة تماما من طرف الأجهزة السرية، التي كانت تزود المخبرين بالتقارير عن مضمون الاجتماعات السرية ومواعد الإضرابات والمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية وقرارات مقاطعة الامتحانات، عندما كانت الجامعة المغربية تؤثر في نبض الشارع وتتحكم فيه أيضا.
عندما تم اعتقال بعض الطلبة الجامعيين، كما أسر بعض الذين تحدثنا إليهم، واجههم المحققون بمقاطع فيديو لهم وهم يتحدثون بحرارة في حلقيات داخل الحرم الجامعي، وهو ما جعلهم يفهمون بسهولة أن الحرم الجامعي قد تم اختراقه، أو أن بينهم جواسيس يعمدون إلى تسجيل مداخلاتهم وتقديمها إلى الأمن. التدخل الأمني يكون عادة لوقف المواجهات التي تندلع بين الفصائل، وقد نجحت بعض المداهمات الأمنية في إيقاف بعض المواجهات قبل أن تتطور إلى جرائم قتل بين الطلبة باسم الاختلاف الفكري، أو الاختلاف حول تسيير أروقة الجامعة والحي الجامعي. لكن الطلبة لا يقبلون أبدا أن تكون أعين الأمن مفتوحة في عقر دار الحرم الجامعي، ويرفضون الأمر إطلاقا باعتبار أن «قدسية الحرم الجامعي مرجعية تاريخية لا تراجع عنها». في الموضوع نفسه دائما، فإن بعض المداخلات والشعارات التي ترفع داخل بعض حلقيات النقاش، كانت ممنوعة، خصوصا في فترات التضييق على الحريات، أو إذا كان الخوض في تلك المواضيع يمس بهيبة الدولة، تماما مثلما وقع في جامعة ابن زهر قبل سنوات، عندما قام بعض الطلبة المحسوبين على فصيل الطلبة الصحراويين، بإحراق العلم المغربي، ورفع شعارات مدافعة عن «البوليساريو» وتم تسجيل أشرطة لعملية إحراق العلم المغربي ونشرت على نطاق واسع بين الطلبة الصحراويين، وهو ما جعلهم يدخلون في مواجهات عنيفة، خصوصا بعد أن قام بعض المخربين بالاعتداء على نزلاء الحي الجامعي في إطار الصراعات الفصائلية دائما، وهو ما استدعى تدخلا أمنيا عاجلا لإيقاف الفوضى.
هذا المعطى، كاف لإعطاء صورة عن مدى انعزال دولة «لافاك» أو الجامعة عن الحياة التي يعيشها المغاربة، وربما عن اهتماماتهم أيضا، بعد أن كانت الجامعة المغربية خلال العقود الماضية، نبضا للشارع المغربي ومحركا للمظاهرات الشهيرة التي عرفها المغرب.
حتى وإن لم يثبت أن الذين تنظم لهم فصائل الطلبة الجامعيين محاكمات داخل الحرم الجامعي، متورطون فعلا في التهم الموجهة إليهم، أو أنهم أبرياء سيئو الحظ، ليتم اعتقالهم بعد وجودهم ربما في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ.. فإن بعض الفصائل الجامعية مصرة على التنكيل بالذين ترى فيهم جواسيس على الحرم الجامعي، خصوصا بعد أن عرضت على بعض النشطاء الذين تم إيقافهم على مدى السنوات الأخيرة، مقاطع لمداخلاتهم والأفكار التي يدعون إليها ورأيهم في بعض الأعمال العنيفة التي وقعت داخل أروقة الجامعة وأتلفت بسببها ممتلكات وأرواح أيضا. وقتها تكون يقين لدى أغلب نشطاء الفصائل، أن الحرب بينهم وبين الدولة لا يمكن أن تنطفئ.. لكن المثير أن كل شيء في حياتهم يتغير بعد مغادرة أروقة الجامعة، حتى أن إدريس البصري فطن للأمر أيام كان وزيرا للداخلية، وأدمج عددا من «الغاضبين» في الداخلية، بدل أن يتركهم حاملين للغضب في صدورهم حتى بعد تخرجهم.
موضوع الفصائل الطلابية يجر دائما إلى الحديث عن انحياز ما إلى طرف من الأطراف، لأن الأجواء بينها متذبذبة.
في جلسة الأسئلة يوم الثلاثاء الماضي، أي الأسبوع الماضي فقط، كان لحسن الداودي، وزير التعليم العالي، يواجه أسئلة بخصوص واقع العنف داخل الجامعات. بدأ رفيقه في الحزب، خالد بوقرعي بطرح سؤال، بحكم انتمائه إلى التجديد الطلابي ووجوده على رأس شبيبة الحزب، حول رد فعل الوزارة الوصية على القطاع لمواجهة العنف داخل الجامعة مستهدفا أفراد «البرنامج المرحلي». فيما طُرح على الوزير سؤال آخر بخصوص طالبة جامعية بسيطة أجبرت على إفراغ غرفتها داخل الحي الجامعي وطردها منه على أيدي طلبة آخرين وليس الإدارة المخول لها هذا الأمر، في إطار الصراع بين الفصائل.
فصائل أخرى، توجه تهما لأصدقاء بوقرعي، ولعل حامي الدين على رأسهم، ويثار اسمه كلما أثير دم أيت لجيد، الذي راح هو الآخر ضحية التناحر بين الفصائل الطلابية. فصيل العدل والإحسان يواجه هو الآخر تهما بتصفية أسماء كانت تنشط في ملعب اليسار، فيما يوجه بدوره تهما أخرى إلى اليسار بالوقوف وراء إزهاق أرواح منتمين له. وهكذا تدور رحى من التهم بالتصفية وإزهاق الأرواح والتسبب في عاهات مستديمة.. باسم الجامعة. ماذا يقع إذن في هذه القلعة؟

هكذا يحاكم طلبة جامعيون زملاءهم في محاكم «عرفية»
قد لا يصدق أحد أن هناك محاكم فعلية داخل الجامعات المغربية، وأن حرمة الحرم الجامعي التي يؤكد الطلبة على قدسيتها، يمكن أن تتحول إلى فضاء مغلق للمحاكمات بعيدا عن أعين المحاكم الفعلية.
في بعض التسجيلات الحصرية التي حصلت عليها «الأخبار»، والتي سنأتي على ذكر مضمون بعضها في هذا الملف، لامسنا أجواء المحاكمات الجامعية، التي لا شك أن أغلب الطلبة المغاربة السابقين والحاليين أيضا، كانوا شاهدين على بعضها.
بعض المحاكمات، كانت عبارة عن استعراض لقوة الفصائل الطلابية، فيما كانت أخرى محاولة لجعل الحرم الجامعي ومحيط الجامعة أيضا، مرسوما بالطريقة التي تراها الفصائل الطلابية مناسبة.
هذه الفصائل رغم أنها تختلف في كل شيء مع بعضها البعض، إلا أنها تلتقي في الجانب الأخلاقي، وتحارب على انفراد في الغالب، بعض الظواهر التي من شأنها، «تمييع» الفضاء الجامعي، حسب ما تدافع به هذه الفصائل عن نفسها في هذا الباب.
في واقعة تتكرر كثيرا لأخذ العبر وتوجيها للطلبة الجدد كل سنة، تمت معاقبة أحد الطلبة لاستخفافه بحلقيات الفصائل الطلابية، ومحاولته اختراق حلقية عقدت في زاوية من ساحة الحرم الجامعي، وبينما كان مسير الحلقية يذكر بأسماء بعض الطلبة الذين أزهقت أرواحهم داخل أروقة الجامعة، عبر الطالب باستخفاف وسط المتجمهرين، ليتم إيقافه من طرف بعض الطلبة المنظمين للحلقية، ويتطور الأمر إلى مواجهة بالأيدي لأن الطالب الجديد رفض التوقف، وهو ما اعتبره الطلبة إهانة للفصيل وللحلقية التي تردد الفصائل دائما أنها «رسمت بدماء الشهداء».
هذا الطالب موضوع التوقيف، تعرض فورا لمحاكمة قادها مسيرو الحلقية المخترقة، وتم الحكم عليه بحمل لافتة كتب عليها اعتذارا والتزاما بعدم اختراق أي حلقية أخرى، وعُرض على باب الكلية في أوقات خروج الطلبة ودخولهم إلى الحصص. حسب المصادر التي واكبت الواقعة، ووقائع أخرى مشابهة، فإن نفسية الطالب موضوع المحاكمة تضررت كثيرا، ولم يعد قادرا على ولوج باب الكلية من جديد، لأن أغلب الطلبة صاروا يعرفون وجهه الذي بات مألوفا، ومقترنا بواقعة محاولة الاستخفاف بالحلقيات الفكرية التي تنظمها الفصائل الطلابية. المصادر ذاتها أكدت أن هذا الطالب تم استقطابه من طرف منظمة التجديد الطلابي، واكتشفوا أنه جاء إلى الجامعة بدون خلفيات سياسية ولا فكرية، ولم يكن يملك فكرة عن أدبيات النقاش الفكري داخل الجامعة المغربية، ولم يكن يعلم أي شيء عن الحلقيات، ليتم تأطيره في ما بعد.
في السابق، كانت ثقافة النضال الجامعي تترسخ لدى الطلبة قبل مرورهم إلى المرحلة الجامعية، بل وكانت الحركات التلاميذية أكثر تأثيرا من الفصائل الطلابية في الجامعات، خصوصا في أحداث 1965 و1984، وهو ما كان يسمح للتلاميذ أثناء وصولهم إلى مرحلة الدراسة الجامعية بالاندماج السريع في الوسط الجديد، مستأنسين بالتراكم النضالي جراء تجربتهم في الثانويات والإعداديات.

ورطة الوزير الباكي..
لم يكن لحسن الداودي، ومعه عبد الإله بنكيران، وهما يتوجهان في طائرة خاصة إلى المغرب العميق للمشاركة في تشييع الطالب عبد الرحيم الحسناوي إلى مثواه الأخير، يعتقدان أنهما يجران على نفسيهما حربا مع الفصائل الطلابية. فبقية الفصائل، اعتبرت أن بنكيران الذي يشغل منصب رئيس الحكومة، عليه أن يمثل المغاربة جميعا وليس فقط المتعاطفين مع حزبه. الجنازة كانت مهيبة، وأخلاق الطالب الراحل كانت خارج النقاش، لأن ما حز في أنفس المتتبعين هو انحياز رئيس الحكومة واهتمامه بقضية مقتل طالب متعاطف مع حزبه، في حين أن طلبة آخرين سقطوا في السنة نفسها، ولم يتحرك لا رئيس الحكومة ولا وزير التعليم العالي، الوصي على القطاع، ولم يخرج ولو ببلاغ في الموضوع.
هذه النقطة بالذات، جعلت لحسن الداودي يقف، دون شعور منه، في فوهة مدفع الغضب من واقع الساحة الجامعية التي تتساقط فيها الأرواح بسبب الانتماءات، والجديد أن الحكومة أصبحت طرفا في هذا النزاع!
هذه الملاحظة أوردتها لـ«الأخبار» مصادر من التجديد الطلابي، مفسرة بها الغضب العارم الذي لاحق لحسن الداودي مباشرة بعد جنازة الطالب عبد الرحيم الحسناوي، ولو أن المحسوبين على التجديد الطلابي استحسنوا اهتمام الوزير بهم ومعه رئيس الحكومة أيضا، لكن المصادر نفسها أكدت أن هذا الأمر جر عليهم متاعب في علاقتهم بـ«رفاق» آخرين، يحترمونهم، ولم يهتم بهم أحد.
في السنوات الخمس الأخيرة فقط، سجلت حالات اعتداء كثيرة في محيط الحرم الجامعي وداخله. لا توجد أرقام دقيقة في هذا الباب، لكن ما وصل إلى الصحافة من أحداث يكفي لإعطاء صورة عن حجم استفحال العنف الجامعي. ففي كلية الآداب بأكادير، قبل ست سنوات، تعرض طالب جامعي محسوب على منظمة التجديد الطلابي، لاعتداء عنيف أصابه بإعاقة ستلازمه بقية حياته، بسبب ضربة سيف وجهها إليه أحد الطلبة القاعديين عندما كان في طريقه إلى باب الكلية. في المقابل، تعرض طالب جامعي ينتمي للفصيل القاعدي لاعتداء في كلية العلوم بأكادير قبل أربع سنوات، نتيجة ضربات عنيفة على مستوى الرأس والحوض، ووجده رفاقه مضرجا في دمائه في ممر يربط بين كلية العلوم وكلية الآداب، وتم توجيه التهمة وقتها إلى الطلبة «الأمازيغيين»، وطالب القاعديون باعتذار في غضون 48 ساعة، مهددين ببدء حرب دامية في حال عدم توصلهم باعتذار من الفصيل الآخر. رفض المنتمون للفصيل المذكور تحمل مسؤولية الاعتداء، وفتح باب الحوار على مضض لتوضيح ملابسات الحادث وإمكانية ضلوع طرف ثالث في الموضوع، وكاد أن يتكرر سيناريو 2006 الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، ودارت معارك دامية بين أزيد من فصيلين جامعيين، سقط خلالها عدد من الطلبة، وذهب آخرون إلى السجن، باسم النضال الجامعي. ورطة لحسن الداودي تتمثل في أنه وزير وصي على قطاع يشهد هذا النوع من الممارسات، التي لا تمت للنضال بصلة، خصوصا وأن الكثيرين يعلقون عليها اليوم بأنها بعيدة تماما عن الواقع الجامعي وما يجب النضال بشأنه. لكن لحسن الداودي الذي يتحدث دائما عن الألواح الذكية واللغة الإنجليزية ونهاية عصر المواد الأدبية، وضرورة القطع مع السبورة والطباشير، ينسى دائما أن أخطر المشاكل التي تهدد الجامعة المغربية، تتمثل في استهداف حياة المنتمين للفصائل الطلابية التي تنشط داخل الجامعات وليس خارجها.

تسجيلات حصرية لأجواء مكهربة داخل الجامعات
حصلت «الأخبار» على تسجيلات صوتية حصرية، (خمسة تسجيلات، اثنان منها تم تسجيلهما في جامعة ابن زهر، والبقية في ظهر المهراز بفاس) توثق لأجواء محاكمات طلابية في جامعتي فاس وأكادير، وتعود كلها إلى سنة 2010.
في التسجيل الأول، يتحدث طالب جامعي محسوب على البرنامج المرحلي، داخل الحرم الجامعي، كما يوضح المصدر الذي مكننا من التسجيل، ما دام صوت رجع الصدى واضح في التسجيل، وهو ما يعني أن الحدث وقع في مكان شبه مغلق. يتعلق الأمر بمحاكمة طلابية لأحد الشبان تم إلقاء القبض عليه بتهمة التجسس على الطلبة، بعد أن شك فيه بعض الطلبة القاعديين، وتم تجريده من بطاقة تعريفه الوطنية، ليتم عرضها على الطلبة، يحسموا في أمر انتمائه إلى الأمن.
«إخواني الطلبة. هذا الجاسوس أرسله أسياده إلى الحرم الجامعي ليتجسس على إخواننا الطلبة، ويعد تقاريره التي تؤدي دائما إلى اعتقال عدد من الرفاق. اليوم سنحاكم هذا الدخيل على الحرم الجامعي، وستكون الكلمة الفصل للرفاق..». بعد ذلك تعلو أصوات كثيرة تطالب بتجريد المشتبه فيه من ملابسه والتنكيل به ليكون عبرة لمن يعتبر، بينما طالب آخرون بتعليق لافتة على صدره ويطوف بها في جميع أروقة وممرات الكلية، حتى يعرف الطلبة الجامعيون كلهم، أنه «بوليسي» جاء ليتجسس عليهم..
هذا التسجيل يعطي صورة مصغرة عن الأجواء التي تتم فيها المحاكمات الجامعية، بينما التسجيلات المتبقية توثق لحالات من النوع نفسه، وأخرى لأشخاص آخرين تم إيقافهم لقيامهم بأمور «لا أخلاقية»، كما أسماها التسجيل، داخل أروقة الجامعة. حالة فتاة وجدها الطلبة الثوريون خلف رواق كانوا يقيمون فيه معرضا يعرف ببعض الكتب والأشرطة التي تروج أفكارا يسارية يدافع عنها الفصيل، كانت تدخن «الشيشة» رفقة فتاة أخرى، وهو ما أثار حفيظة الطلبة ليقوموا بمحاصرة الفتاتين اللتين دخلتا معهم في مشادات كلامية، ويصادروا «الشيشة» التي كانت بحوزتهما، ويقيموا على الفور حلقية لعرض الأمر على طلبة الجامعة. حسب التسجيل، فإن الفضاء الذي تمت فيه المحاكمة كان مزدحما جدا، وكانت الطالبة الجامعية التي تسير المحاكمة تتحدث بلغة الوعيد، وتتأسف لحال الجامعة المغربية التي أصبحت، حسب التسجيل دائما، وكرا لاستهلاك المخدرات والإقدام على تصرفات لا تمت لعالم الجامعة بصلة. التسجيل كان غير مكتمل، ولم يفصح عن نوع العقوبة التي تم الحكم بها على الفتاتين، لكن المصدر الذي تحدثت إليه «الأخبار» في الموضوع، أكد أن هذا النوع من المحاكمات لا يكون عنيفا، وتكون أقصى العقوبات فيه هي مصادرة الأشياء المحجوزة، وتوبيخ المتورطين حتى لا يعودوا إلى نفس الممارسات داخل أروقة الجامعة.

من أين جاءت أسطورة «دولة لافاك» وكيف واجهتها الدولة؟
يُرجع الكثير من أبناء الجامعة السابقين أمر بداية تضييق الخناق على الجامعة المغربية، إلى سنوات السبعينات، خصوصا بعدما أصبح إدريس البصري وزيرا للداخلية. كان وقتها البصري قد أدخل بعض أصدقائه إلى فضاء الجامعة ودعمهم، لكي يصبحوا على رأس بعض الشعب في كليات الآداب والعلوم والقانون أيضا، وهكذا سيطر على الجامعة. حسب المتابعين لتلك الأجواء، فقد كان بعض الأساتذة المعروفين بعلاقتهم مع وزير الداخلية، يجدون متاعب كثيرة أثناء إلقائهم للمحاضرات، وكانت عبارات تنال من شخصهم، تصل إلى أسماعهم بين الفينة والأخرى في فترات الصمت داخل المدرجات.
التهم الموجهة إليهم كانت كلها تصب في باب «العمالة» للداخلية و«التبركيك» لصالح الداخلية، في السنوات التي كانت فيها الأنشطة الطلابية محظورة، بما في ذلك أنشطة استضافة بعض الوجوه المعارضة، كبنجلون والمهدي المنجرة وآخرين..
كان إدريس البصري بدهائه، يعلم أن الجامعة كانت تفرخ أفواجا من الذين ينضمون إلى المعارضة ويمارسون السياسة من خلالها، أو المعطلين الذين ينظمون وقفات احتجاجية أمام العمالات، في جميع الأقاليم، بداية التسعينات، لذلك فطن مبكرا إلى ضرورة احتواء أوضاع الجامعة، للحفاظ على الصورة التي كان يريدها لوزارة الداخلية. وتبقى عملية الإدماج التي قادها إدريس البصري، بإيعاز من معاونيه في مكتبه بالداخلية خلال بداية الثمانينات، أحد أكبر عمليات الاستقطاب التي تعرضت لها الجامعة المغربية، ممثلة في الفصائل الجامعية. فقد كانت سياسة إدريس البصري ترمي إلى توظيف عدد من خريجي الجامعات المغربية في وزارة الداخلية، ليشتغلوا لاحقا كقياد وموظفين في المكاتب الإدارية التابعة للوزارة، وهكذا يكون إدريس البصري قد احتوى أفواجا من الغاضبين من سياسته. وفي سنوات قليلة تم توظيف المئات من خريجي الجامعات، وبعضهم حازوا على مسار متنوع بين مكاتب وزارة الداخلية ووصلوا إلى قمة هرم التوظيف داخل دهاليز الوزارة، وآخرون عادوا إلى فضاء الجامعات كأساتذة جامعيين، أو كتاب عامين في إدارات الكليات.
بعض هؤلاء الطلبة كانوا ينتمون إلى تنظيمات راديكالية لا تعترف أبدا بالحوار مع الدولة، وتتبنى خطابا فكريا معاديا للسلطة، لكن سياسة إدريس البصري جعلت بعضهم على الأقل، يتراجعون عن مواقفهم الجامدة في التعامل مع مؤسسات الدولة، ويصبحوا موظفين داخلها!
في المقابل، كانت وزارة الداخلية تعلم أن هناك طلبة متورطين في أحداث عنيفة في أروقة الجامعة، خلال سنوات السبعينات وبداية الثمانينات وصولا إلى التسعينات أيضا، خصوصا الذين درسوا في ظهر المهراز بفاس، حيث دارت معارك بين فصائل يسارية، أغلبها انشق عن الفصيل الأصلي، وواجهوا طلبة «العدل والإحسان» وحدثت بين الطرفين مواجهات دامية، أصيب بعض الطلاب خلالها بعاهات مستديمة حملوها معهم بقية حياتهم، حتى بعد انتهاء مرحلة الدراسة الجامعية. بعض هؤلاء المتورطين في تلك الأحداث، جعلوها وراء ظهورهم بمجرد انتهاء دراستهم الجامعية، وأصبحوا إما أطرا في وزارة التربية الوطنية وقتها، وبعضهم تدرج في التفتيش والمكاتب المرموقة للوزارة، وآخرون استقطبتهم وزارة الداخلية أيام إدريس البصري ليصبحوا موظفين غير عاديين داخل أكثر معاقل «المخزن»، الذي حاربوه، قوة وسرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى