الرأي

ذكريات حزبية بلا مناسبة

لا وجود لقانون الأحزاب، فقط يسري على تأسيسها ما يهم قانون الجمعيات. لذلك لم يواجه النقابي السابق محمد أرسلان الجديدي ورفاقه ما يحظر عليهم تشكيل حزب سياسي تحت يافطة الدفاع عن «العروبية»، لم يقولوا ذلك بما يفيد أنهم ضد ساكنة المدن وذوي الأصول الحضرية، بل اختزلوا مشروعهم في الدفاع عن العالم القروي.
ما من برنامج سياسي يدغدغ العواطف أكثر من العزف على النعرات القبلية، خصوصا إذ تقرن بالمظلومية والحيف وعدم تساوي الفرص. فقد اتهم الزعيم النقابي نوبير الأموي غريمه الوزير الأول عز الدين العراقي، بأنه كان يعتمد التمييز بين الطلاب المتحدرين من الحواضر أو البوادي. وروى أحد مساعدي الجنرال أحمد الدليمي أنه لم يكن يذعن لأي طلب، أكثر من تغليفه بنزعة قبلية، كأن يقول له المشتكي إنه تعرض لظلم لمجرد أنه «عروبي»، فبالأحرى أن يكون من ساكنة المنطقة التي يتحدر منها.
صادف عند الشروع في تأسيس حزب «العروبية» كما كان يطلق عليه مجازا، أن الموسم كان جافا، توالت نكباته سنوات عدة. وأدرك كثيرون السر الكامن وراء مقولة المارشال اليوطي الحاكم العسكري الفرنسي الذي رأى ما مفاده أن سماء المغرب إن أمطرت سهلت مهمة الحكم، وإن بخلت ببشائرها زادت الموقف حدة وصعوبة.
رحل اليوطي وظلت أعناق المغاربة مشرئبة إلى السماء، ثم اكتشف أولئك الذين كانوا يرون في سياسة بناء السدود الكبرى نوعا من البذخ، كما هي العلاقات مع البلدان الأوروبية التي كانت تصنف ضمن التبعية للامبريالية العالمية، أن السدود تنفع في مواسم الجفاف، كما الانفتاح على أوروبا سيصبح مطلبا قوميا يزايد الجميع في الامتثال لقوانينه العرفية والمكتوبة.
غير أن البعد الانتخابي لم يكن غائبا عن هذا التوجه، حيث راهن فريق «العروبية» المنشق عن تجمع الأحرار، على الخزان الانتخابي في البادية.
ومنذ كانت الانتخابات والبوادي تسيل اللعاب. ومن يتأمل خرائط الدوائر في استحقاقات تلك المرحلة وما قبلها، لابد أن يلحظ هروب الوزراء وكبار المسؤولين إلى اكتشاف الهوامش المنسية التي لا تظهر إلا في المواسم الانتخابية.
غير أن هبة السكان في دائرة بوزنيقة، احتجاجا على فوز الوزير الأسبق في المالية عبد الكامل الرغاي، الذي اعتاد الترشح في الرباط، أبانت عن واقع مغاير لانبساط سهول البوادي والمراكز الحضرية، ومثلها أطاحت قرى صغيرة في ضواحي فاس ومراكش ومكناس وغيرها، بوزراء توقعوا المنافسات في البوادي مثل طابع البريد الذي يوصل الرسائل إلى حيث يجب، ثم تبينوا أنهم أخطؤوا العنوان والطرق التي لا تكون دائما سالكة.
في فترة سابقة ازدهرت موضة اكتشاف القرى الصغيرة لدى المسؤولين. وشجع الحسن الثاني الموجة، من منطلق أنه لو اهتم كل مسؤول صغيرا كان أم كبيرا ببلدته، فإن ذلك سيغير وجه الحواضر والبلدات الصغيرة، لكن من دون المغالاة في الانتماء القبلي الذي يؤثر في قاعدة استمالة الناخبين.. ذلك أن ابن القرية الذي يعود إليها أفضل ممن ينزل إليها بالمظلات.
حكى ابن زعير، وزير المالية الأسبق عبد القادر بن سليمان، في اجتماع تأسيس للحزب، عن مآسي شظف العيش في البوادي، وقال إن المزارعين يقصدون الأسواق الأسبوعية لبيع دوابهم، وحين لا يجدون من يشتريها يتركونها هناك في الخلاء، لا مالك لها، لأن ليس لديهم ما تقتات به. وفي قصة أن سيدة افترشت الأرض لتبيع بيضا، فجاءها رجل رجاها أن تمسك بلجام فرسه، إلى حين قضاء حاجة مستعجلة، تذرعت بأنها منشغلة بتجارتها الصغيرة التي تعيل بها أسرة كاملة.
قال لها معقبا: كلها أربع بيضات أشتريها منك، ثم جمعها ووضعها في «قب» جلبابه وانصرف. بقيت المسكينة في انتظاره مع فرسه، لكنه لم يعد، فقد صار ثمن البيض أغلى من الخيول المنهكة. واختزل الثنائي «بزيز وباز» ذروة السخرية من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، في استعارة المثل الذي كان يبخس قيمة الأشياء بأنها «لا تساوي ثمن بصلة»، بعد أن أصبحت البصلة توضع على ميزان الذهب. ومن السخرية أيضا أن الطيب الصديقي ظهر في شريط بعنوان «الزفت» يبيع حبات العدس بالغرامات كما في مقاس الذهب الخالص.
ما بالنا والذكريات السيئة لأعوام الجفاف، سوى أن الظاهرة التي تميز تعاقب السنوات والأحقاب، منذ «عام الجوع والبون» الذي أرخ به الأجداد، إلى تقليعة الانشغال بالاحتباس الحراري والخوف من زحف البحار كما الرمال، لا يضاهيها سوى جفاف الأفكار.
يكفي أن ينجح مشروع صغير، من قبيل إقامة محلبة تطعم الأفواه بأقل كلفة على وزن أغنية «خبز وزيتون يشبعنا». فتنتشر حولها في الرقعة الضيقة ذاتها محالب أكثر عددا. وما إن تجلب مقهى ما يكفي من الزبائن حتى لا تفصل بينها والمقهى الأخرى ثالثة ورابعة. وانتشى تاجر بفكرة تصدير «اللويزة» وعندما أراد تسجيل حقوق المشروع كان سبقه إلى ذلك تجار كثر.
عندما أسس الرئيس المصري أنور السادات «الحزب الوطني الديمقراطي» ضدا على الحزب الاتحادي، لم تراوده فكرة أن الاسم سيصبح علامة مسجلة لحزب في المغرب الأقصى ذي نزعة «عروبية». وخاطبني صحفي مصري زار المغرب وقتها إن كان في المغرب حزب قومي يدين بالولاء للتجربة الناصرية، وكان مبعث الاستفسار أنه فهم كلمة «العروبية» بمنطوق القومية العربية، قبل أن يستدرك بأنها رديف للصعايدة والأرياف التي يستعملها المشارقة في الكتابة عن البوادي، على غرار «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم الذي اقتبس قصة أهل الكهف من القرآن الكريم، وحولها إلى عمل مسرحي رائع.
وقانا الله وإياكم شرور الجفاف، أما تأسيس الأحزاب فهو مثل الأرض الخصبة، تمنح على قدر طبيعتها ومناخها. ومن النباتات ما لها حواس الشم التي تعرف بتاريخ الميلاد والاستمرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى