الرأي

روسيا «تتمدد» على حساب أمريكا بالشرق الأوسط

انطلاق طائرات يو 22 الروسية العملاقة من قاعدة همدان الإيرانية، للمرة الأولى منذ سبعين عاما، يشكل تطورا سياسيا أكثر ما هو تكتيك عسكري، ويفتح صفحة جديدة في التحالف الاستراتيجي الروسي الإيراني، الذي بدأ يتعزز في المنطقة على حساب الولايات المتحدة وحلفائها العرب.
إيران حرصت طوال العقود الماضية على عدم السماح لأي قوى، عظمى أو صغرى، باستخدام أراضيها كنقطة انطلاق لضربات عسكرية، ولكنها تخلت عن هذه المعادلة، وسمحت للقاذفات الروسية العملاقة بتسجيل هذه السابقة، مدفوعة بعدة أسباب يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: التأكيد على أن التحالف الروسي الإيراني استراتيجي، وفي إطار مخططات إقليمية ودولية مشتركة، جرى الاتفاق عليها بين الطرفين.
ثانيا: حرص إيران على توجيه رسائل عديدة إلى أطراف عربية ودولية، أبرزها التشديد على أنها مستعدة أن تكسر كل المحرمات من أجل الحيلولة دون سقوط حليفها بشار الأسد، بما في ذلك السماح لدولة عظمى مثل روسيا باستخدام قواعدها العسكرية.
ثالثا: التقدم الكبير الذي حققته الفصائل السورية المسلحة المدعومة من السعودية وقطر ودول غربية في منطقة حلب، بما في ذلك كسر الحصار عن الأحياء الشرقية منها، أصاب إيران بصدمة كبرى، ودفعها إلى التجاوب مع كل الطلبات الروسية.
رابعا: رغبة إيران في الانتهاء بسرعة من ملف مدينة حلب، وحسم الوضع عسكريا فيها لصالح الجيش السوري، حتى تتفرغ للحرب في اليمن، ومواجهة خصمها السعودي بعد انهيار مفاوضات السلام في الكويت، وتكثيف طائرات “عاصفة الحزم” لغاراتها ضد الأهداف الحوثية الصالحية، وتقدم قوات التحالف السعودي نحو صنعاء.
صحيح أن استخدام القاذفات الروسية العملاقة قاعدة همدان الجوية الأكثر تجهيزا لاستقبالها من قاعدة حميميم الجوية شمال سورية، يقلص مدى طيرانها بمقدار 60 بالمئة، ويوفر لها الأمان من أي قصف أرضي أو جوي أثناء الاقلاع والهبوط، ولكن الصحيح أيضا أن المسألة أكبر من ذلك بكثير، ولها علاقة بـ”إعلان” التحالف الاستراتيجي الإيراني الروسي على حقيقته دون أي تمويه أو تضليل، مما يعني أن الطرفين، الإيراني والروسي، قد حسما أمرهما، وقررا الانطلاق بهذا التحالف إلى مرحلة ابعد.
روسيا “تتمدد” في الشرق الأوسط سياسيا وعسكريا، وتملأ الفراغ الذي نتج عن الانكماش الأمريكي، وباتت شريكا في حزام أمني وعسكري يبدأ من الحدود الافغانية الإيرانية في الشرق، وينتهي على شواطيء البحر المتوسط في لبنان وسورية، مرورا بالعراق طبعا.
الجميع في المنطقة الشرق أوسطية بات الآن يطلب ود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويقدم له المغريات السياسية والعسكرية والاقتصادية لكسبه إلى جانبه، السعودية عرضت صفقات أسلحة ضخمة واستثمارات أضخم، وتركيا أردوغان، اعتذرت رسميا، وباللغة الروسية، منعا لأي لبس أو تأويل، وإيران فتحت قواعدها العسكرية التي ظلت مغلقة لأكثر من سبعين عاما، والإمارات تمول صفقات أسلحة روسية لحليفها المصري الذي بات يدير ظهره تدريجيا للغرب، وحتى المعارضة السورية لم تقطع شعرة “معاوية” مع موسكو، وتحج إليها بين الحين والآخر، وشاهدنا ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي يجتمع ببعض أعضائها في الدوحة قبل يومين.
ولعل العرض الأكبر لكسب الود الروسي جاء من السيد عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي الذي أكد أن بلاده مستعدة لإعطاء روسيا حصة أكبر في منطقة الشرق الأوسط من تلك التي كانت لدى الاتحاد السوفييتي، ولكنه عرض جاء متأخرا، ولم يثر لعاب الرئيس بوتين، إن لم يكن قد نظر إليه بسخرية، فمن يعطي من؟ وهو عرض لمن لا يملك، لمن يملك، بفرض الأمر الواقع عسكريا واستراتيجيا.
التحالف الروسي السوري الإيراني بات يملك اليد العليا في الملف السوري بشقيه السياسي والعسكري، وبضوء أخضر أمريكي، وازداد قوة بعد الاعتذار التركي لبوتين عن إسقاط الطائرة، والانقلاب العسكري الفاشل المدعوم أمريكيا للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية، وسيزداد هذا الحلف صلابة بالانقلاب الذي حدث في أولويات الحكومة السعودية.
القيادة السعودية كانت تريد حسم الوضع عسكريا بدعمها للمعارضة السورية المسلحة في حلب على وجه الخصوص، حتى تتفرغ لليمن، ولكن هذه الاستراتيجية لم تنجح، وأدركت هذه القيادة حتمية وضع تأمين أمنها الداخلي، وجوارها الاقليمي الجنوبي، على قمة أولوياتها، ومن المتوقع أن يتراجع موقفها السياسي والعسكري في سورية في الاشهر، وربما السنوات المقبلة.
معركة صنعاء باتت أهم لصانع القرار السعودي من معركة حلب، وتأمين الحدود الجنوبية السعودية في نجران وجيزان وعسير، حيث التوغلات الحوثية الصالحية، والصواريخ البالستية بات اهم من إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وصمت السيد الجبير، واختفاؤه هذه الأيام، يؤكد هذه الحقيقة.
انطلاق الطائرات الروسية العملاقة من قاعدة همدان الإيرانية رسالة قوية جدا إلى السعودية ودول الخليج، تقول مفرداتها أن قواعد اللعبة تتغير بسرعة، وأن اليمن بات على قمة الاجندة بعد سورية.
هل ستستوعب القيادة السعودية هذه الرسالة وتفك شفرتها، وتتصرف على أساسها، وهي تدرك جيدا ما هو المطلوب منها، وتقلص خسائرها، أم أنها ستتجاهلها، وتكابر مثلما كان عليه الحال في السابق؟
الإجابة ستأتي من اليمن وميادينه العسكرية، وما علينا غير الانتظار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى