الرأي

سياسة ضد السياسة

من المنتظر، في غضون أسبوعين على الأكثر، أن تتم المصادقة على القانون الإطار الخاص بالرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهو القانون الذي سيلزم الحكومات القادمة، وعلى مدى 15 سنة بتوجهات الرؤية. ما يعني عمليا، أن الحكومات القادمة ستكتفي في برامجها، التي ستتقدم بها لنيل «المصادقة» في البرلمان، بنَسْخِ ما جاء في الرؤية دون زيادة أو نقصان، أي بلغة أخرى، أن الحكومات المقبلة ستكون بدون سياسة تعليمية خاصة بها، لكون هذا القانون سيلزمها بمضامين الرؤية، في حين سيبقى للوزراء المعينين في القطاع القليل من هامش التدبير، والكثير من فرص تبذير المال العام في العلاقات العامة والسفريات لا أكثر. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح بعد صدور القانون الإطار، هو ما الحاجة لوزارات في التعليم من أساس؟ ما الحاجة لإعادة تبني هذه التركيبة الرباعية «العبيطة» في مجال التعليم؟ ألن يشكل منصب الوزير أو مناصب الوزراء في القطاع، كما هو الحال اليوم، عائقا في تنفيذ مضامين الرؤية؟ ألا يعني هذا الحاجة لتحويل وزارتي التعليم العالي والتربية الوطنية إلى مندوبيتين أو مديريتين كما كان الحال إبان فترة الحماية؟ أيُّ معنى ستتخذه الجهوية المتقدمة في قطاع التربية الوطنية، وكذا استقلالية الجامعات في ظل استمرار وزارات تتدخل في كل شيء، بدءا من تدبير الامتحانات، كما جرى أخيرا في امتحانات الباكالوريا، وصولا لمناهج وبرامج التربية والتكوين؟ ما الحاجة لمنصب وزير سيكون عليه فقط أن ينفذ الرؤية الاستراتيجية ولا يحق له التدخل في عمل الأكاديميات والجامعات؟ أليس هذا هو المنطق السليم لمعنى الجهوية المتقدمة واستقلالية الجامعات؟
إن القارئ العارف بما جرى ويجري في قطاع التعليم في ظل هذه الحكومة، يعرف بالأدلة القاطعة، أن قرارات وزارية كثيرة تم اتخاذها ضدا على المنطق السليم، وضدا على مصلحة القطاع، بسبب حسابات سياسوية أو ذاتية لهذا الوزير أو ذاك. وأيضا هناك قرارات عاجلة ومصيرية لم يتم اتخاذها للسبب ذاته. فالتكوين المستمر مثلا متوقف منذ خمس سنوات في التعليم المدرسي، فقط لأن الوزير السابق محمد الوفا، كانت له حساسية شخصية مع البرنامج الاستعجالي، والتجديد في مجال البرامج والمناهج متوقف بسبب ذلك، منذ أن تم طرد كزافيي، صاحب بيداغوجيا الإدماج. لكن في المقابل، تخلى الوزير ذاته عن «جرأته» وبدا عاجزا عن تنظيف المصالح المركزية والجهوية من الفاسدين الذين اغتنوا من البرنامج الاستعجالي ذاته، بل ووقع بنفسه على مقترحات إعادة تعيينهم بمراسيم. والشيء نفسه في التعليم العالي، حيث أثبت لحسن الداودي و«وزيرتاه»، بنخلدون والمصلي، أن هذا القطاع، ولمدة خمس سنوات، كان مجرد «مكتب للتدريب» برتبة وزارة منتدبة، تحتله «سطاجيرتان» لهما ديوانان يكلفان الملايين شهريا، فقط لأن «المصلي» مثلا تتدرب على تدبير قطاع البحث العلمي وهي مجرد أستاذة للتعليم الثانوي حاصلة على شهادة دكتوراه في موضوع «المرأة في الإسلام». وواقع القطاع كان سيكون أفضل بكثير لو تم تحويله لهيكلة إدارية مستقلة، تكتفي بدور المراقبة على احترام الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى للسياسة التي سطرها المجلس الأعلى. وانتهى.
لا نريد هنا أن نتحدث عن المزايا المالية للتخلي عن فكرة الوزارات في القطاع، فالتكلفة المالية لتعيين أربعة وزراء، فضلا عن العشرات من أعضاء دواوينهم، تتجاوز مئات الملايين شهريا، ولا نريد أيضا أن نتحدث عن التكلفة الأخلاقية التي ندفعها كأمة عندما نعين وزيرا، من طينة خالد برجاوي، ليست له أية علاقة بالتكوين المهني، وزيرا للقطاع، وهو العاجز حتى عن تدبير امتحان جهوي في الباكالوريا الجهوية، كما حدث أخيرا في القنيطرة، عندما انسحب 19 تلميذا من الامتحان احتجاجا على وضع امتحان لا علاقة له بالمقرر. بل نريد أن نتحدث عن السلاسة الإدارية المطلوبة لجعل الهياكل الوزارية والدواوين لا تشكل عائقا في وجه تفعيل مضامين الرؤية الاستراتيجية. ولمن شك في هذا الكلام، سيكون عليه أن يعرف الكارثة التي يسببها الآن نفوذ أعضاء ديوان الوزير رشيد بلمختار، والذين أضحوا وزارة داخل وزارة، يتدخلون في كل شيء، بالرغم من أن القانون المنظم لعملهم يمنع عليهم ذلك. لذلك نحن فقط في حاجة لشجاعة سياسية تحد من كوارث السياسوية.. أي سياسة ضد السياسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى