شوف تشوف

الرئيسية

سيدي حرازم .. المحبُّ

هو سيدي علي بن حِرزِهم، واحد من «ديوان المحبين» بالضرورة، فقيه عالم عابد زاهد، توفي آخر يوم في شعبان سنة 559هـ، من أكابر القوم بفاس الأساس.كان يقول: «أموت في العام الفلاني»، وفي ذلك العام نفسه مات. مما يطرح أمامنا قضية رؤية ولي الله الصالح الذي تحققت ولايته وصلاحه للعالم والحياة والموت، وكيف يمكن أن ينظر بنور الله ويسمع بالله ويتكلم بالله،كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته علي، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه». وهل يستطيع أي إنسان أن يبصر نهايته، بل ونهاية الآخرين؟ وما علاقة هذه البصيرة، التي غالبا ما يربطها العارفون بالله بالقلب، بما يسمى عند الفلاسفة العقلانيين، وفي مقدّمتهم ديكارت وبرغسون، بـ«الحدس العقلي»؟ وما هي الحدود التي يمكن أن يصل إليها عقل المحبّ، مع العلم أن هذا النوع من العقلانية هي التي سماها الفيلسوف طه عبد الرحمن في مؤلفه «العمل الديني وتجديد العقل»، بـ«العقلانية المؤيدة»؟ بينما السؤال الأخطر من كل هذه الأسئلة هو: هل يستطيع العلم أن يتنبأ بموت إنسان وهو في كامل قواه العقلية والبدنية، بل في كامل طاقته الرّوحية كما هو الحال مع ابن حرزهم؟
قد تبدو هذه الأسئلة من باب السخرية عند البعض، أو قد يسخر منها البعض الآخر، لكن هذا هو سياق فكرنا الروحي والتاريخي معاً. والذي يطالع سيرة الرجال في هذا الباب يجدُ العجب العجاب، ومن تأريخ كبار المؤرخين الذين يشهد لهم برجاحة العقل ونجاعة البحث العلمي ودقته. لكن الرأي عندي- في الحقيقة- وإيماناً بقوة العقل وقدراته التي لم تكتشف كاملة بعد، أن كرامات الأولياء تحتاج منا إلى تحقيق علمي وتفسير معقول حتى نكشف حجاب هذا العرفان الذي اختص به القوم، وكان محط صراع وجدل عند أكبر فلاسفة الإسلام، هو ابن رشد الفيلسوف الذي كان يقرأ التصوف بعين الفيلسوف، وحديثه معروف عن العقل الفعال أو العقل الهيولاني. وكذا حديث متصوفة الإسلام عن تعدد العقول، وهل العقل يشكل ماهية وجود الإنسان؟
ومن العجيب أن ابن حرزهم أو سيدي حرازم، لم يقصد طريق القوم إلا بعد حادثة يتداخل فيها ما هو علمي بما هو روحي، أو قل تتداخل فيها المعرفة مع العرفان.. فقد حدث في زمن الرّجل أن قرأ موسوعة «إحياء علوم الدين» للإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي فور دخولها إلى المغرب، وفحص ما فيها من أمور منتقدة وأحاديث ضعيفة، وهذا أمر معروف عند عامة العلماء، وكل هذا تمهيداً للموافقة على حرق موسوعة الغزالي وموافقة بعض من أفتى بذلك. ويروي لنا صاحب «طبقات الشافعية الكبرى»، في الطبقة الرابعة، أنه لما وقف على «الإحياء» تأمل فيه، ثم قال: «هذا بدعة مخالف للسنة». مع العلم أن الشيخ أبو الحسن بن حرزهم كان عالما مطاعاً في بلده، فأمر بإحضار كل ما فيها من نسخ «الإحياء»، وطلب من السلطان أن يلزم الناس بذلك، فكتب إلى النواحي، وشدد في ذلك، وتوعد من أخفى شيئاً منه، فأحضر الناس ما عندهم، واجتمع الفقهاء ونظروا فيه، ثم أجمعوا على إحراقه يوم الجمعة، وكان ذلك يوم الخميس.
إلى هنا تبدو الأمور عادية؛ اتفاق بين السلطة العلمية والسلطة السياسية على حرق كتب الإمام الغزالي، وتأليب جماهير الناس ضد «إحياء علوم الدين». لكن بعد هذا الحدث، ولما كانت ليلة الجمعة، رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، جلوسا، والإمام أبو حامد الغزالي قائما، وبيده «الإحياء»، فقال: يا رسول الله، هذا خصمي. فناوله «الإحياء»، فنظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والله إن هذا شيء حسن. ثم ناوله أبا بكر فاستحسنه، ثم ناوله عمر فنظر فيه كذلك فاستحسنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد الحسن من ثيابه وضربه، فجرد وضرب، ثم شفع فيه أبو بكر بعد خمسة أسواط، وقال: يا رسول الله، إنما فعل هذا اجتهاداً في سنتك وتعظيماً، فعفا عنه أبو حامد عند ذلك. فلما استيقظ ابن حرزهم وجد أثر السياط على ظهره، وصار ينظر «الإحياء» ويعظمه ويبجله.
مات الرّجلُ وأثر السياط على ظهره..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى