الرأي

صمت أمام اللوحات ومسالك الغولف

  بعد أن كان مأخوذا بكبريات القضايا والملفات، قرر كمال الأخضر، رجل المهمات الصعبة في الوزارة الأولى، على عهد كل من أحمد عصمان والمعطي بوعبيد، أن يستبدل مشواره بأسلوب ذكي وهادئ.
عرف بحكم التجربة أن الالتصاق بآلة الهاتف الثابت، لا يقود دائما إلى تلقي المكالمة التي ينتظرها كثيرون، خصوصا أولئك الذين يعتقدون أن من الغبن وعدم رد الاعتبار أن يبقوا بعيدا عن تحمل المسؤولية في دواليب الإدارة والوزارة. غير أن الهاتف الذي لا يرن في البيت بعد الإحالة على تقاعد مريح، أو جراء تغيير اسم بآخر، يصبح مرادفا لقاعدة النسيان. وقد جبل الإنسان على فضيلة النسيان، لكنه لا يريد أن يطبقها على نفسه.
اقتطع السي كمال من وقته الزائد عن اللزوم ما يكفيه لتعلم أبجديات لعبة الغولف التي لم يكن يهواها من قبل، أو لم يكن له الوقت لممارستها. ثم أضاف إليها أكوام الصباغة والألوان، ليجرب حظه في أن يصبح رساما. وما يجمع بين الرسم والغولف أن تبديد ثقل الزمن ينتج شيئا أقرب إلى الرضى. إذ يفلح اللاعب في وضع الكرة في الحفرة، عبر أقل عدد من الضربات، كما ينجح الرسام في خلق عالم من الألوان والخطوط تمنح معنى آخر للحياة. وأكثر الرسامين الكبار كانوا يواجهون دائما برفض ذويهم أن يصبحوا رسامين أو «مجرد فنانين» كما في النظرة التعسفية للإبداع.
في الهوايتين معا لم يكن الرجل غريبا،
في الأولى كان يسمع ويتابع الحكايات والحوارات التي تنسج في مسالك الغولف الخضراء. لم يمازحه أحد في أن اسمه الذي يرتبط باللون الأخضر قد يصبح علامة مسجلة في لعبة الكبار. لكنه رغب في أن يقاسم وحدته مع الطبيعة، وأذعن لقوانين تعلم اللعبة التي لا يعيب أحد في أنها تماثل النقش على الحجر وإن طال العمر.
لعبة الغولف ليست مثل هواية كرة القدم، يمكن ممارستها في الدروب الضيقة والأحياء الشعبية، لكن من يقع في هواها تنسيه متاعب الكبار. وقد صارت مرادفا للنعمة والوقار، تقرب البعض وتبعد البعض، ولا تفقد وهجها في السياحة والمنافسات الدولية، إلى درجة أن جامعي الكرة الذين يتحملقون حول اللاعبين أضحوا أبطالا مرموقين، أعادوا كل الرياضات إلى أصولها في مغالبة الذات وتحدي طبيعة وقدرات الإنسان.
وفي الثانية كان رصيد صداقاته المفتوحة على عالم التشكيليين المغاربة والأجانب، أقرب الطرق إلى دخول المجال من بابه الواسع. وكم من مرة دارت في بيته حوارات سياسية، وكان يهرب منها عبر الحديث عن الرسم والموسيقى والفن. بل إن عالم الإبداع كان يستهويه أكثر، عندما يغادر زحمة الملفات التي كان يديرها في صمت، ويتحاشى الحديث عن نفسه. وأخاله ينقطع عن وظيفته، بمجرد أن يخلد إلى حديث الصداقات التي كان يعج بها بيته في بعض المساءات.
ليس ترفا آخر، فالرسم أيضا هواية الأثرياء والفقراء تغذي الشعور بالوئام مع الذات، وإن كانت حياة كبار التشكيليين تختلف في قسوتها عن الانطباع الذي تخلقه إبداعاتهم. ومن المفارقات أنه عندما كانت باريس قبلة الثقافة والعلوم القانونية، ادعى شغوفون بالرسم أنهم ذاهبون إلى هناك لتلقي المعرفة القانونية، ثم أذعنوا لرغبات الإبداع التي لا يمكن دفنها رغم مرور الزمن.
خلال عملي في ديوان وزير الدولة الراحل المعطي بوعبيد، سمعته مرة يجود بالنصح على خلفه الوزير الأول محمد كريم العمراني، وكان مما قاله، وهو يتحدث إليه عبر الهاتف: «لن تجد أفضل من كمال الأخضر، مساعدا أمينا بكفاءة عالية»، والحق أن بوعبيد لم يوصِ خيرا بغير هذا الرجل وسائقه الخاص، فقد قطع صلاته بكل ما له علاقة بالوزارة الأولى. وهو الذي قال عنه الحسن الثاني في ذكر مناقبه «حتى زين ما خطاتو لولة».
وأصبح بوعبيد يتحدث ويصغي إلى حوار «مونولوغ» عندما يُطلب إليه رأيه في تدبير خلفه كريم العمراني، ثم عز الدين العراقي. وأثنى في مرات عديدة بعض وزراء حزبه من أن يظهروا تمنعا في دعم الوزراء الأولين بعد مغادرته منصبه، ثم اختار كمال الأخضر مستشارا إعلاميا.
هل دفع كمال الأخضر ضريبة وفائه لكل من أحمد عصمان والمعطي بوعبيد، أم أن الرياح التي عصفت به كانت أكبر من شراعه المنثور ببساطة متناهية؟ كل الذين اشتغلوا معه يقرون بأنه آلة عمل لا تتوقف عن التفكير والابتكار والتواضع.
والتقيته مرات عدة على متن القطار الرابط بين العاصمة والدار البيضاء، يحمل الصحف ويغرس رأسه لا مباليا بما يدور حوله. اختار الانزواء مكرها، ولم تفارقه ابتسامته التي تحيط بها صرامة قوية. غير أن التحدي القاسي الذي اختار السير فيه، جعله أكثر ترفعا. وكما في فترة وظيفته كان يلوذ إلى الصمت، ينهش الملفات الإدارية والقانونية والسياسية، بحثا عن حلول مناسبة لمختلف الإكراهات، حافظ على طبعه.
عندما وصف المغاربة حفظ الأسرار بأنه أشبه ببئر لا قاع لها، كانوا محقين. ولا شيء يحول دون معاودة تصفح ملفات المرحلة، لولا أن كمال الأخضر ينطبق عليه وصف أبي الهول الذي لا يحرك ساكنا. ولا أدري إن كان حقق بعضا من طموحاته في أن يصبح رساما أو لاعب غولف ماهر. غير أن واقع استبدال الملفات التي كانت تختص بالشؤون العامة، عصب الوزارة الأولى، بأخرى تنفرج على الغولف والرسم، كان وجيها، أقله أن الرجل لم يذعن لوهم الالتصاق بالهاتف، ولم يوسط قريبا أو غريبا. فقط أدى واجبه وترك للآتين أن يتدبروا شؤون المراحل اللاحقة.
ولم يحزن لشيء أكثر من الأسى الذي أصابه في فقدان شريكة حياته، تلك الألمانية الشقراء التي كانت ترحب بالأصدقاء بقلب مفتوح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى