شوف تشوف

الرأي

صناعة الوعي الجماعي بالأمة

«الأمة هي المجتمع الإجمالي المتكون من أناس يعتبرون أنفسهم بمثابة أفراد»
إذا كان الذي يسعى إلى تأسيس الأمة على أوهام العقل يقودها إلى النوم الأبدي في أساطير التراث، فإن الذي يرى مصلحة الأمة في الحداثة العقلانية والعلمية والسياسية يوجهها نحو النهضة الفكرية والحضارة، ولذلك نجد أن قوة الأمة تكمن في النهضة والانفتاح وليس في الانكماش والانغلاق حول الذات، إذ لا ينبغي أن تحتفظ الأمة بالأحزان وتلك الجراح العميقة التي تاهت في التاريخ الوسطوي، بل من الضروري نحت سؤال النهضة العقلانية في الأرواح، وجعلها تعيش نشوة التحولات الكبرى، فما العمل إذن؟ هل يمكن العودة إلى ينبوع الفرح والسعادة، أي العقل؟ أم الاقتصار على الإقامة في الماضي؟ بل أكثر من هذا، ألم يكن الاستمتاع الفلسفي محركاً لروح الأمة من أجل بناء نهضتها، انطلاقاً من عصر الأنوار؟ ولماذا يتم تأجيل التاريخ عندنا؟ وكيف يمكن بناء أمة كاملة بشعب مخدر الإدراك؟
بإمكان العقلانية الرشيدة إنقاذ روح الأمة التي مزقتها الشعارات الشعبوية للقومية الهزيلة التي تتحدث عن ثقافة مهيأة سلفاً، وتدعي وضع السياسة الممتزجة بالدين في مصلحة الأمة، والشعب كما لو كان هذا الشعب دمية سياسية يتم تحريكها في الانتخابات، من أجل الحصول على السلطة، ثم يلقى به في البؤس والشقاء واليأس، هكذا يسهل تخدير إدراكه بالخرافات إلى أن تتم العودة إليه، ومن المؤسف أن الأقلية المخدرة الإدراك تحكم الأغلبية المستيقظة، نظراً للامبالاة السياسية، الناتجة عن ضعف الأحزاب السياسية في نظر هذه الأغلبية التي ترى في المقاطعة السبيل الوحيد لإثبات موقفها.
بيد أن هذه المقاطعة تخدم مصلحة تلك الأحزاب الشعبوية الهزيلة، لأنها استطاعت من خلال أصواتها المعدمة أن تمارس الهيمنة السياسية والإيديولوجية، وبما أن الانتماء الحذر إلى الأمة قد يعجل بانفجارها، فإن عدم المشاركة في التغيير السياسي ولو كان بمبادرات جديدة قد تؤدي إلى انهيار روح المجتمع المدني واندثار الطبقة الوسطى المثقفة، هكذا ستنهار الأمة، وهي لا ترمم، كما أن تجليات الروح لا يمكن إصلاحها، من ثقافة وسياسة وتقدم علمي، هكذا يصبح العصر مجرد: «مكوث للأمراض الشاحبة وللشيخوخة الحزينة، إلى أن يحول نظره إلى الاستمتاع الفلسفي»(1) ولكن كيف يمكن استعادة تلك الأيام الجميلة التي سلبت منا؟ ومن الذي جعل الأسوأ يحل محلها؟ وهل الزمان الذي ينفلت بسرعة قابل للترميم؟
شيئاً فشيئا لا نجد أمامنا سوى الوجه المشرق للفيلسوف ابن رشد، لا لأننا ورثنا روحه وأبعدنا جسده، بل لأنه يلمع كنجمة ضخمة في الكون، فإما ابن رشد أو العدم، ليس هناك اختيار ثالث، لأن الحقيقة واحدة، ومن يريد تمزيقها، لا يمزق سوى روح الأمة، ولذلك فإن الاعتماد على طلبة التقنية وعلوم الطب والصيدلة وتجنيدهم بأسلحة السلفية الجهادية، من أجل مواجهة النهضة العقلانية، خاصة وأن رؤساء الجامعات ينتصرون لهذا التوجه الأصولي، قد ساهم في إحداث ثقوب في كينونة الأمة، وحولها إلى أمة مريضة سياسياً وفكرياً.هكذا أصبح التيار الرشيد معزولاً وابتعدت النهضة عن العقلانية، وأرغم الإنسان على عبادة الأساطير الحديثة، ولم يعد يفكر انطلاقاً من العقل، بل من خلال الوجدان الذي ينظر إلى الحداثة استعماراً للأمة، يجب الاستقلال منه بواسطة التشبث بالهوية الدينية، بيد أنها تحيا بواسطة منتوجات الحداثة، لأن استيرادها من الضفة الأخرى حلال، وتصنيعها هنا حرام، فداخل إشكالية الحلال والحرام يتم تحديد هوية هذا الفكر الوسطوي الذي يجعل من الحرب قاعدة مركزية في برنامجه الإيديولوجي، فالانطلاق يبدأ من الخصوم ويكون هدفه الخصوم، الصراع من أجل الصراع، فأين نحن من الحقيقة؟ وما الذي نريده من إثارة إشكالية الأمة؟ وهل هناك من يبعدها عن هويتها حتى يأتي من يدافع عنها؟ ألا تكون الأحزاب الدينية مجرد نتيجة لفشل الأحزاب السياسية؟ وما الذي يريده الشعب من نفسه؟ ألا يكفيه هذا الشقاء الممتد في عمق التاريخ؟
من أجل تعبئة قوى سياسية قادرة على مواجهة التطرف الفكري، وفي نفس الوقت إعادة بناء الأمة على السياسة والتوجه العقلاني، كما أن الدولة ينبغي أن تساهم في هذا البناء إذا أرادت أن تحافظ على نفسها من الانهيار، فالسياسة المدنية هي حياة الدولة، والبيروقراطية العقلانية هي حياة السياسة المدنية، ولذلك فإن المفهوم السياسي للأمة ليس هو الهوية الدينية فقط، بل الهوية الثقافية والفكرية، والثقافة لا تستمر في الوجود بدون الحرية والاختلاف الفكري، والتعدد المشترك، ولذلك فإن الذين يراهنون على توحيد خطاب الحقيقة، لم يعد أمامهم في زمن الحداثة غير الاستمتاع بالجهل وظلمة الظلام، ففي الليل تبدو كل الأبقار سوداء.
لكن عندما تشرق شمس رائعة وجديدة ستبدد هذا الظلام، وحينئذ تظهر حقيقة الأبقار، مما يسمح بممارسة الفكر، والدفع بالتأملات إلى الدلالة والمعنى لكي تصير معرفة، هذه كلمات أرسلها إلى كل إنسان يتمتع بنزعته الإنسانية، من أجل أن يتأملها ويفكر فيها، وهو يسعى إلى جعل الذات تحول نظرها من الأسفل إلى الأعلى، تنتقل قياساً إلى ما كانت عليه نتيجة لأثر الفكر، وهي وظيفة التأمل الفلسفي: «فالفيلسوف يكتب تأملاته وفقاً لهذا المعنى، لا يتعلق الأمر بلعبة الذات مع فكرها، إن ديكارت لا يفكر في كل ما يمكن أن يكون مشكوكاً فيه في العالم.. إنه يضع نفسه في حالة ذلك الشخص الذي يبحث عما هو مؤكد، من خلال تمرين الفكر».
وبهذا المعنى القوي تكون المعرفة والعلوم عبارة عن تمرين للذات من أجل معرفة نفسها، حتى تصبح في خدمة الأمة، فالذات الجاهلة تشكل خطراً على الأمة، وبخاصة إذا تمكنت من الوصول إلى ممارسة السلطة، لأن أول مبادرة تقوم بها هي الهيمنة السياسية وتنمو إلى أن تحقق كمالها في الطغيان، وقد رأينا كيف أن فساد روح الطاغية يقود إلى فساد الأمة، ولذلك يتعين على كل أمة تعسى أن تحقق كمالها في النهضة العلمية والسياسية أن تختار نخبتها السياسية من المفكرين والعلماء، وليس من المتكلمين والفقهاء، لأن التجربة قد أثبتت بالبرهان أن انحطاط الأمم يكون سببه الخطباء والسفسطائيون .
لقد تم اليوم تجاوز هذه النقطة السوداء في تاريخ الإنسانية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى