شوف تشوف

الرأي

صناعة غير قابلة للتصدير

حين قال وزير الخارجية المصري إن قتل الباحث الإيطالي بعد تعذيبه حالة فردية. فهل كان يرد على السؤال أم يتهرب من الإجابة؟ ذلك أن الاستفهام ليس منصبا على ما إذا كان ما جرى للشاب جوليو ريجيني حالة خاصة أم عامة، ولكن يراد به معرفة حقيقة ما جرى له وتعرضه لتلك النهاية البشعة. خصوصا بعدما تعددت الأقاويل التي ترددت في هذا الصدد، وكانت جميعها غير مقنعة لا للطليان ولا لغيرهم في الخارج أو الداخل. بل إن بعضها بدا معززا للشك في ضلوع الأجهزة الأمنية في الحادث. وإذا كان ما قاله الوزير باعثا على الحيرة والاستغراب، فإن ما يردده آخرون يثير الدهشة، ذلك أنني قرأت لبعض المحسوبين على الأجهزة الأمنية قولهم إن الضجة المثارة حول الموضوع تستهدف تشويه سمعة مصر من جانب الدول التي تعيش في أحضان التنظيم الدولى للإخوان. مبعث الدهشة هنا ليس غرابة الحجة التي اتهمت 28 دولة ممثلة في البرلمان الأوروبي الذي أصدر بيان انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في مصر بأنها تعيش في أحضان التنظيم الدولي ــ لكنه في تدهور مستوى المعبرين عن الأجهزة الأمنية في وسائل الإعلام، إذ لا يتخيل أحد أن تصر تلك الأجهزة على اختيار «محامين» فاشلين من الدرجة العاشرة تخسر بهم كل قضاياها.
إن أسرة الباحث الإيطالي مشغولة بقضية ابنها وقد لا تهمها كثيرا ما إذا كان قتله وتعذيبه حالة خاصة أو عامة في مصر، وكذلك الحكومة الإيطالية التي تعتبر أنها مسؤولة عن حماية مواطنيها. ثم إن هناك برلمانا منتخبا ورأيا عاما ضاغطا يطالب بالكشف عن ملابسات ما جرى للباحث القتيل. وقد تم تصعيد الأمر بحيث وصل إلى البرلمان الأوروبي بالتالي فالمسألة هناك مأخوذة على محمل الجد. وقد تكون لها عواقب وخيمة سياسيا واقتصاديا. وهو ما حذر منه وزير الخارجية الإيطالي. بل إن رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشيوخ لويجي مانكوني أعلن في مؤتمر صحفى، وفي حضور والدي الباحث، أنه إذا لم يتوصل المحققون المصريون إلى حلول مرضية بحلول 5 أبريل (الثلاثاء) فإن وزارة الخارجية الإيطالية ستعتبر مصر دولة غير آمنة وستسحب سفيرها من القاهرة. (هذه الخطوة إذا تمت فإن تأثيرها في الاستثمارات الإيطالية وربما الأوروبية في مصر سيكون فادحا).
المسألة كبرت في إيطاليا بعد الإعلان المصري عن «تصفية» عصابة من أربعة أشخاص جرى الشك في أن لهم علاقة بجريمة القتل، وهو ما اقترن بإظهار متعلقات القتيل والادعاء بأنه عثر عليها لدى شقيقة أحد أفراد العصابة الذين تم قتلهم. إذ بدت القصة صعبة التصديق ومليئة بالثغرات الأمر الذى أثار غضب أسرة القتيل والرأي العام الإيطالي. فذهبت أم الشاب إلى مجلس الشيوخ ووجهت الاتهام إلى الحكومة المصرية، حتى ذكرت أن قتل جوليو ليس حادثا فرديا كما ذكرت تصريحات القاهرة، ولكن حادثا معتادا بالنسبة للمصريين.
أضعف الموقف المصري كثيرا أنه بعدما أعلنت وزارة الداخلية قصة تصفية العصابة وظهرت متعلقات الشاب الإيطالي، حدث تطوران أسهما في مزيد من البلبلة. الأول أن الداخلية تراجعت وأعلنت أنها لم تتهم العصابة المذكورة بالمسؤولية عن قتله وتعذيبه، ولكن تحقيقاتها في الحادث لا تزال مستمرة. التطور الثاني أن النائب العام المصري أصدر بيانا ذكر فيه أنه شكل فريقا في مكتبه للتحقيق في الحادث. وهو ما يعني أن عملية البحث تشارك إلى جانب وزارة الداخلية مجموعة خاصة أخرى في مكتب النائب العام تواصل تحقيق النيابة في الموضوع.
الملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن السلطة المصرية خاطبت الإيطاليين في الحادث بنفس اللغة التى تخاطب بها المصريين. ذلك أن «تصفية» الأشخاص في أماكن مختلفة بمصر تتحدث عنها البيانات الرسمية وتتناقلها وسائل الإعلام بين الحين والآخر وتغلق بها ملفات القضايا دون مناقشة أو مراجعة. علما بأن القانون يعاقب من ينشر معلومات مخالفة لما تورده البيانات الرسمية. ورغم تعدد القصص الهامسة التى تروى الوقائع على نحو آخر فإن أحدا لا يجرؤ على الجهر بها، خصوصا مع شيوع مناخ الاستباحة الذى يسوغ تصفية الأغيار باختلاف هوياتهم، وتلك خلفية إذا احتملتها الأوضاع الاستثنائية في مصر، فإنه كان ينبغى الانتباه إلى أن الوضع في إيطاليا مختلف.
المشكلة أن البيانات الرسمية في مثل هذه الحالات كأنها توجه إلى السلطات المصرية ولا تضع في الاعتبار صداها في الداخل أو الخارج. فالاحتجاج بأن حادث التعذيب وقتل الباحث الإيطالي حادث فردى لا يبرر التهوين من الأمر بأي حال، فضلا عن أن تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة، تنفي الحجة وتكذبها، لأنها تعتبر الحادث جزءا من ظاهرة مصرية يتم التستر عليها. والادعاء بأن إثارة الموضوع يراد به تشويه مصر أو أن التنظيم الدولى وراءها فيه استخفاف بالعقول ولا يستحق التفنيد أو الرد. ذلك بأننا بصدد واقعة أصبحت فضيحة تسببت فيها السلطات المصرية من ألفها إلى يائها. إن طمس الحقائق في مصر صناعة محلية غير قابلة للتصدير إلى الدول الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى