شوف تشوف

الرأي

طريق نصف موارب

لم يحرص الكاتب عبد الكريم غلاب على استمرار صدور صفحات مختصة في جريدة «العلم»، كما كان يولي عناية لقضيتين محوريتين: العالم الإسلامي وإفريقيا. من دون إغفال الحضور الوازن للملحق الثقافي الذي كان يصدر كل جمعة، ومذكراته الأسبوعية التي كانت تزين الصفحة الأخيرة كل أربعاء، كأنها مستوحاة في التوقيت من «حديث الأربعاء» لعميد الأدب العربي طه حسين.
كم كان عدد المسلمين في مطلع سبعينيات القرن الماضي؟ تجيب الصحيفة، من خلال عنوانها، إنهم «700 مليون مسلم». ويجتهد الكاتب محمد سعد العلمي، الذي كان يعمل وقتذاك في الكتابة الخاصة لزعيم الاستقلال علال الفاسي، في أن تحيط الموضوعات المنتقاة للصفحة التي كان يشرف عليها، بكافة القضايا الإسلامية، من شمال إفريقيا إلى الفلبين ومن أندونيسيا إلى أقصى الجزر والملاذات المنتشرة في العالم. كانت الحرب الهندية – الباكستانية في ذروتها، ولم تكن أوضاع المسلمين في الإمبراطورية السوفياتية الحمراء أقل سوءا. لكن توصيف الإرهاب كان غائبا، مثله في ذلك كما الأمراض المعدية التي انتشرت فجأة من «السيدا» إلى «إيبولا». فلكل عصر أمراضه وكوارثه ومخاوفه.
«700 مليون مسلم» تصدر كل أسبوع، ولا مكان فيها لمفردات وقواميس غير دعم النزعة التحررية في مواجهة الاستعمار. في الأمم المتحدة ثلاث أو أربع قضايا تستحوذ على اهتمامات الرأي العام، فيتنام وكاشمير وأزمة الشرق الأوسط، التي صنعت لتبقى محكا حقيقيا لغياب إرادة العدل والإنصاف. بينما يناقش مفكرون إسلاميون كبار أسباب الهزيمة والنكوص، بعيدا عن أي نزعة للعودة بالعالم إلى حروبه الدينية.
زادت أعداد المسلمين وتضاعف أعداؤهم وخصومهم. لم يعد واردا استيعاب همومهم في ثمانية أعمدة مرة كل أسبوع. تراجعت أجناس الأركان المختصة في الصحافة المحلية والعربية والدولية، إلا في الجوانب التي تشمل الهوايات، مثل صحافة السيارات والموضة وعالم الفن والمشاهير. وصار لهوايات القنص ولغة الغولف والتزلج على البحر والجليد، صحافتها المتطورة. فماذا حل بصفحة إفريقيا التي كان لها راصدوها في الأوساط الدبلوماسية ومراكز الأبحاث الجامعية والتخصصات المعرفية.
كان الزميل الكاتب الصحفي عمر نجيب يتميز بطاقة قوية في متابعة الأحداث الدولية، خصوصا ما يتعلق منها بأزمة الشرق الأوسط وتداعيات الحرب الباردة. كان ولا يزال يكتب أسبوعيا «موضوع الثلاثاء»، الذي يحفل بكثير من المعطيات والحقائق، والقدرة على الربط والتحليل واستشراف التطورات. رأى عبد الكريم غلاب أن صفحة إفريقيا ذات أهمية استراتيجية، وعهد إلى الزميل عبد السلام شوح بالإشراف عليها، ضمن فريق صغير، يهتم بترجمة المقالات الصادرة في كبريات الصحف الدولية. ومع الأيام أصبح الزميل شوح مرجعية في الإحاطة بأنواع الأزمات والحروب والنزاعات العرقية والطائفية المستشرية في الجسد الإفريقي.
في كل مؤتمر أو لقاء إقليمي ودولي كان مسؤولون في حركات التحرير الإفريقية يدلفون إلى مكتب «العلم» ويخصون صفحة إفريقيا بمقابلات ومعطيات منحتها ريادة متميزة في الصحافة المتخصصة. ولم يكن زعيم الثورة الإيريترية عثمان سبي يرتاح إلا حين تصدر تصريحات في «العلم» تعرف بقضية بلاده، قبل أن تصبح دولة مستقلة. وكثيرا ما احتجت بعثات دبلوماسية إفريقية ضد هذا التوجه الذي يناقض مصالحها، مطالبة بإغلاق هذه النافذة التي يتسرب منها الريح.
كسبت الصحافة زميلا متابعا للشؤون الإفريقية، فيما كان زميل آخر من جيل الرواد المخضرمين، يتدخل بأسلوب هادئ ورصين لإثارة الانتباه إلى عوالم وقضايا إفريقية وعربية ودولية. فقد كان الزميل مصطفى اليزناسني ذا قدرة هائلة على تمثل الاتجاه الصحيح في النظر إلى التطورات. وكان، بحكم تكوينه الموسوعي في السياسة والثقافة والأدب والترجمة والتواضع، مرجعية الزملاء حيال ما استعصى على الفهم والإدراك.
تتغاير مسارات الرجال والأقلام والأفكار. انتقل محمد سعد العلمي من الصحافة والكتابة إلى الولاية التشريعية، نائبا عن دائرة في الشاون، التي يعتبر من أصواتها التي صدحت بالحاجة إلى إيلاء المنطقة الشمالية ما تتطلبه من اهتمام، ثم عين وزيرا وسفيرا للمغرب في القاهرة، وبقيت صفحة «700 مليون مسلم» التي اختفت، من دون أب، تماما كما اختفت مبادرات أقدم عليها لإغناء الصحافة الأسبوعية، بعد أن تعرضت مجلته «الهدف» إلى المنع والاندثار.
على دروب تلفها القناعة وعمق الالتزام المبدئي، خاض مصطفى اليزناسني معاركه التي لم تنفصل يوما عن إيمانه وتشبعه بقيم إنسانية نبيلة. لم تنل منه خيبة الأمل أو جمود الأوضاع، واستمر على وفائه لما يراه مبررا حقيقيا لمعنى الوجود، يغلب لديه المثقف النزيه على الصحفي المهني والدبلوماسي المتمرس الذي يتوارى عن صفوف الواجهة.
فماذا فعل الصحفي الآخر الذي اسمه عبد السلام شوح؟ أبدى بعض الانزعاج مثل صحفيي جيله، من ظلم حزبي أو مهني، فغير منبر انتسابه وحطت به الرحال في صحيفة «الأنباء». ومنها سيتم تعيينه مديرا للمعهد العالي للصحافة. لكن طريق عودته إلى استنشاق مداد المطابع كانت صعبة أو مستحيلة بقياس ما. فالصحافة تطوح بممتهنها إلى فوق، كلما كانت الأقدام مشدودة إلى الأرض سهلت العودة إلى النبع. وعلى عكس ذلك يضيع المرء علامات الإضاءات الأولى.
قال لي صديق لبناني عمل في صحافة المهجر، إن احتفاظ رجل المهنة ببطاقة الصحافة لا يعني أنه يتعين أن يظل صحفيا من المهد إلى اللحد. كانت المناسبة أني تلقيت دعوة المشاركة في افتتاح مركب سياحي فخم في تونس. اعتقدت في البداية أن ذلك الزميل استبدل مهنة الصحافة بالعبور إلى ساحة العلاقات العامة، ثم أيقظني من غفوتي قائلا إنه صاحب المشروع السياحي الهائل.
وها أننا نذكر أصدقاء البدايات، متمنين طول العمر للذين ساروا على الدرب، حتى وإن كانت بعض الطرق بلا مخارج.. فهي تحتاج على الأقل لمن يُذكر بأنها ذات اتجاه واحد، وإن كان مغلقا أو نصف موارب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى