شوف تشوف

الرأي

عدمية العلم الحديث

ما يدفعني إلى تسجيل هذه الأفكار أن العلم يندفع بروح (عدمية)، فمنذ أن أعلن نيتشه الفيلسوف الألماني قديماً آراءه الخاصة المعروفة وتصوراته عن الله وكفره بالمسيحية على النحو الذي سنعرضه عن الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، ختمها المفكر الفرنسي حديثاً ميشال فوكو بموت الإنسان، ثم أطبقت التكنولوجيا الأمريكية بمسح المدن بالسلاح الذري، وأصبح الجنس البشري قاطبة مهدداً عملياً بالفناء. وبذا مشى الفكر الغربي بقرنين (نظري) إلى العدمية و(عملي) إلى التهديد بالفناء الفعلي للبشرية وفي النهاية فإن تطور تكنولوجيا السلاح هو ليس تطوراً علمياً بل هو اتجاه الفلسفة العدمية.
لنستمع إلى طرف من الاختناق الفكري على لسان برتراند راسل في كتابه (لماذا أنا لست مسيحياً) في فصل عبادة الرجل الحر: (لأن يكون الإنسان نتاج أسباب لا تملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات ولأن يكون منشؤه ونموه وآماله ومخاوفه وصبواته ومعتقداته مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي؛ ولأن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء. وعلى ذلك لا يمكن بناء موطن الروح في أمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم).
هذه الكلمات ذكرها مؤلفان يشتغلان بفلسفة العلوم هما روبرت آغروس، وجون ستانسيو في كتابهما (العلم في منظوره الجديد) وهو مترجم عن كتاب عنوانه (القصة الجديدة للعلم).
ذكر المؤلفان هذه الفقرة بشيء من الحسرة، باعتبار أن نبضات الكلمات كلها تشير إلى فلسفة العدم الذي يرى الكون يقوم بالصدفة (حصيلة ارتصاف ذرات عرضي)، لينتهي بالعدم والعبثية (تعجز عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر)..
وبرتراند راسل يعتبر في الفكر الغربي المعاصر ذا وزن لا يستهان به، ولذا فهو يعبر عن روح الحضارة الغربية وفلسفتها التي تسيرها، والتي ترى الكون في صورة (الصدفة والعبث).
إن حاجة العلم والعالم اليوم ملحة إلى فلسفة جديدة تولد روحاً جديدة. القرآن يرى الكون يقوم بالحق، وعلى الحق، والخلق بالتالي ليس عبثاً. (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)؟ فالكون له بداية، كما أن له نهاية، ووفق برنامج مرسوم. (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) ص – 27 – (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) الحجر 85. لذا فإن ما وصل إليه برتراند راسل في القرن العشرين هو ما ناقشه القرآن مع إنسان المجتمع العربي القديم، والذي أطلق عليه مصطلح (الجاهلية) حيث يأتي العربي القديم فيقول للرسول – ص – بعد أن يأخذ عظماً يضغطه بيده ليتحول إلى تراب، فيقول أربك يعيد هذا بعدما رمَّ؟. تنزل آيات من القرآن الكريم للتعامل مع هذه العقلية العدمية العبثية، وتعالج الحجة أو المظهر المادي لعظم يستحيل إلى تراب. (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم؟؟) يس 78. كانت فكرة البعث والتي هي في صميمها تعالج البرنامج الكوني، أي استقرار الكون بموجب هدف محكم، وبالتالي اكتمال صورة الوجود من خلال دورة الطبيعة الكاملة. (كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) سورة الأنبياء. كان التعجب يأخذ من المشركين أيما مأخذ، كما فعل مع برتراند راسل هل سيكون هناك خلق جديد بعد الاستحالة إلى الرفات؟؟. (أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً) سورة الإسراء. كان القرآن يحيل المظهر إلى جوهر المشكلة وهي ليست (عناصر الكالسيوم والصوديوم والفوسفور والحديد والتراب… (قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) سورة الإسراء. فهذا هو جوهر المشكلة أي فساد التصور، أي الفلسفة أو نظام المعرفة (الابستمولوجيا) الذي يكوِّن هذه العقلية، ولذا فإن العمل الذي نقوم فيه لأسلمة المعرفة له ما يبرره، حيث أن أسلمة العلوم أو المعرفة هو ليس أكثر من رد الشيء إلى الحيز الذي يجب أن يكون فيه حتى يؤدي بالتالي وظيفته على الوجه الأمثل. وعقلية الشاعر العربي قديماً طرفة بن العبد لا تختلف كثيراً عن عقلية الفيلسوف البريطاني في هذه النقطة، فلقد حفظت لنا المعلقات الشعرية أبياتاً من الشعر جميلة البناء خاوية الهدف:
أرى قبر نحـَّام بخيـلٍ بمالـه
كقبر غَوُّي في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
لعمرك ما أخطأ المـوت الفتــى
لكالطول المرخى وثنياه باليد.
فهو يرى القبور تسوي بين الناس جميعاً، فيلفهم (الاندثار) كما عبر برتراند راسل من أن هذا هو المصير المحتوم لكل عبقرية الإنسان.
ولكن ماذا تقول كلمات العلم الجديد؟؟ إن هناك من سبقني إلى الاستشهاد بقول برتراند راسل على اعتبار أنها من مخلفات فكر القرن التاسع عشر الميلادي، ذلك أن الحضارة الغربية تواجه تحدياً خطيراً، بل إن الحضارة الإنسانية هي في حالة تحول وانقلابٍ اليوم؟! جاء في كتاب العلم في منظوره الجديد (ص 15): (والحضارة الغربية مابرحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم التجريبي. بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين).
وهذا التحدي يأتي من أن العالم مقبل على تصور كوني جديد لذا فإن صاحبي الكتاب المذكور عرَّفا هذا التصور للحضارة على الشكل التالي: (لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقاً لها كل شيء ويقيَّم، والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أن لدينا تصوراً ما إلا حين نواجه تصوراً بديلاً، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول) ص 15.
إننا نرى في هذا السياق الفكري المكثف لفلسفة العلم، فإذا ربطنا بين الفقرتين السابقتين نرى بوضوح أن العالم مقبل على تصور جديد، وهو يودع التصور القديم، وهنا في نقطة التمفصل هذه يجب أن يكون لنا دور، وهو قادم بإذن الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى