شوف تشوف

الرأي

عزل تجار الانتخابات

أنصف الملك محمد السادس أدوار مؤسسات تنفيذية وتشريعية، بهدف رفع الالتباس حول اخصاصاتها ومسؤولياتها، المرتبطة بترسيم وتنفيذ السياسات العامة وإغناء المجال التشريعي. ولعل الغاية من ذلك أن يكون الناخبون المتوجهون إلى صناديق الاقتراع على بينة ودراية بأهداف واختصاصات الديموقراطية المحلية كونها بمثابة الأرضية الصلبة التي يقوم عليها هرم البناء السياسي. ويتكامل دورها مع باقي المؤسسات، ضمن ما يشبه الأضلاع المتوازية في فصل السلط وتفعيل الحياة الديمقراطية والتنمية المحلية.
أول ما يستشف من خطاب الملك محمد السادس في ذكرى ثورة العرش والشعب، أنه امتداد لمنهجية وأسلوب مكاشفة في تعرية الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ولئن كانت خلاصات خطاب العرش صادمة في صراماتها وواقعيتها وطموحها للتغير نحو الأفضل من خلال دق جرس الإنذار حيال وجود حوالي ثلث سكان البلاد في أوضاع مزرية ومهينة للكرامة الإنسانية، فإن وصفة العلاج امتدت نحو تفعيل الديمقراطية المحلية، بما يجعلها لصيقة بالواقع، تتوخى تغيره وإنصاف الفئات والمجالات التي تعاني من الخصاص والهشاشة والتهميش.
تعتبر الديمقراطية المحلية، عبر آليات المجالس والجهات عماد التنمية، ليس فقط لكونها ترفع الأعباء عن الدولة المركزية وتفوض شؤون التدبير المحلي بصلاحيات واسعة ولكن لأنها أكثر قربا إلى حياة المواطنين وانشغالاتهم ومشاكلهم. عدا أنها تفسح المجال أمام النخب والكفاءات لتولي تدبير الملفات، ضمن تعاقد الثقة بين الناخبين والمنتخبين.
لكن هذا التعاقد الذي يستند إلى ميثاق أخلاقي في الوفاء بالتعهدات، ينبغي أن يكون محوره قائما على برامج وتصورات عملية ودقيقة، في إقرار المشاريع وتنفيذها والالتزام بها. بصيغة أخرى فالمنافسات الانتخابية لا تكون بين الأشخاص والأحزاب والانتماءات، بقدر ما يجب أن تركز على البرامج وآليات ووسائل التنفيذ، في إطار أجندة واضحة لا تحيد عن المهام التي خولها المشرع للهيآت المحلية والجهوية المنتخبة وتعتمد سياسة الإصغاء والتوازن في توسيع المشاريع، من دون أي حيف أو تمييز، خصوصا بالنسبة للدوائر والأحياء والمجالات التي لم تنل حظها في التنمية.
أما البعد الثاني لمضمون الخطاب الملكي، فينصرف إلى ترجيح إرادة الناخبين في تقوية وتعزيز المشهد الديمقراطي، ليس من خلال كثافة المشاركة التي تضفي أهمية خاصة على أي استشارة شعبية وتعكس حجم الإقبال على صناديق الاقتراع من عدمه، ولكن أساسا من خلال نوعيتها ومضمونها إذ تضع الثقة في من يستحقها، وتبتعد أكثر عن التأثر بالانفعالات والحساسيات، وبعض أشكال الاستمالة التي يحظرها القانون ويعاقب عليها. ويذهب إنصاف الناخبين للمرة الأولى إلى إزالة أنواع الغموض حول العملية الانتخابية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإطلاق الوعود وتضخيمها في غير ما يندرج في صلب اختصاصات الديمقراطية المحلية.
بمعنى آخر فالملك محمد السادس حصن إرادة الناخبين التي هي مصدر ممارسة سيادة الأمة، وترك لهم حرية الاختيار العقلاني الذي يقطع ما أنماط الاستغلال وتبخيس حق وواجب التصويت، باعتباره ممارسة دستورية تكفل المشاركة في تحصين الاختيارات المنسجمة مع القناعات والأفكار والميول، وما بين استخدام المال والنزوع إلى دغدغة العواطف، عبر إطلاق الوعود الكاذبة، وترشح أشخاص لا تهمهم المصلحة العامة، إلى غير ذلك من الظواهر، يتم إفراغ العملية الديمقراطية من مضمونها، ولا تصبح شكلية من قبيل إصباغ الواجهة فحسب، بل تقوض روح البناء الديمقراطي.
يكمن البعد الثالث في رصد تظاهر الاختلالات التي تعتري العملية الانتخابية في كون الديمقراطية ذات مضمون عملي، فهي ليست اقتراعا ومنافسات وحملات وإجراءات تنظيمية، ولكنها، ذات حمولة اقتصادية واجتماعية وسياسية ترهن ممارساتها وسيادتها ومجالاتها بإحداث تغيير ملموس على مظاهر الحياة، يعانيه الناس في الاستجابة إلى تطلعاتهم.
وما يزيد في أهمية هذا الاختيار أن الرهان على خيار الجهوية الموسعة يأتي متلازما مع تقييم حصيلة الأداء. وعندما يتم الإقرار بعجز التنمية المحلية عن الارتقاء بحياة ملايين السكان الذين تستمر معاناتهم في مواجهة شظف العيش وانعدام المرافق والخدمات والوقوع تحت طائلة تهميش غير مبرر، فذاك معناه أن التجارب السابقة في الديمقراطية المحلية كانت دون التطلعات.
إلا أن الأهم في تحديد الاختلالات أنه حددها هذه المرة في مسؤوليات المنتخبين، خصوصا أولئك الذين يركبون الموجة لتحقيق أهداف خاصة، يطلقون الوعود ثم يختفون عن الأنظار. وإذا كانوا فعلوا ذلك في نطاق صلاحيات المجالس البلدية والقروية، فمبالنا عندما يتعلق الأمر باختصاصات نظام الجهات فالرسالة التي تفهم من خطاب الملك محمد السادس أن الرهان الجهوي كما باقي الاستحقاقات المحلية، يتطلب ديمقراطيين مسؤولين ومؤمنين ومستعدين للعمل والتضحية، وليس تجار انتخابات ومزايدات.
القرار بيد الناخب، لاشك في ذلك، ففي إمكانهم أن يعزلوا تجار المواسم الانتخابية عبر الاستعمال الجيد والمسؤول للحق الذين يمارسونه بقوة القانون، وفي إمكانهم أيضا من خلال الإقبال على أداء الواجب تحصين التجربة السياسية مما علق بها من اختلالات، لا تتطلب أكثر من وضع الثقة المناسبة في المنتخبين المسؤولين، وتلك بداية الطريق التي يفترض أن تجعل من أولى انتخابات بلدية وجهوية، في ظل الدستور الجديد منعطفا حاسما ومصيريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى