الرأي

عن دوافع القرار السعودي بإرسال قوات برية إلى سوريا

كنا في الماضي القريب ننتظر ثلاثة أيام وربما أكثر لمعرفة رد الفعل السعودي الرسمي على أي حدث عربي أو دولي، بما في ذلك اتفاقات كامب ديفيد التي هزت المنطقة، واخترقت ثوابتها.. الآن تغير الحال، وباتت السعودية هي مصدر الحدث، وصناعة الخبر، وأصبح لها متحدثون عسكريون وأمنيون، لا يتوقفون عن الكلام، ويكرهون فضيلة الصمت، يعقدون مؤتمرات صحافية، ويلتقون رجال الإعلام، ويزاحمون شيوخ الفضائيات، ويفجرون المفاجآت، الواحدة تلو الأخرى، السارة منها أو غير السارة، حسب تقييم المتلقي، والخندق السياسي، أو العقائدي الذي يقف فيه. بالأمس فجر العميد الركن أحمد عسيري المتحدث باسم «عاصفة الحزم» آخر هذه المفاجآت، عندما أعلن في ساعة متأخرة أن المملكة مستعدة للمشاركة في أي عمليات برية في سورية إذا قرر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة القيام بعمليات من هذا النوع ضد «الدولة الاسلامية».
ولا نعتقد أن تزامن هذا الإعلان مع كشف المتحدث العسكري المصري على صفحته على «الفيسبوك» مجموعة صور لوحدات عسكرية من القوات المسلحة المصرية، في طريقها إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في أنشطة وفعاليات التدريب المشترك (مناورات رعد الشمال)، الذي سيستمر لعدة أيام، بهدف رفع معدلات الكفاءة الفنية والقتالية للعناصر المشاركة، لم يكن من قبيل الصدفة، في أطار خطط جرى الاتفاق عليها مسبقا بين الولايات المتحدة وعدة دول إقليمية أخرى مشاركة في التحالف الستيني ضد «الدولة الاسلامية».
التقدم الميداني الكبير والمحوري الذي حققته قوات الجيش السوري النظامي في منطقة حلب، ومحافظة درعا الجنوبية، وكسر الحصار عن بلدات مثل نبل والزهراء بعد أن استمر حوالي ثلاث سنوات، وبغطاء جوي روسي، هذا التقدم أقلق المملكة العربية السعودية وحليفها التركي، ودفعهما للتخلي عن ترددهما المستمر منذ خمس سنوات، وقبول تحدي المشاركة بريا في حرب إسقاط النظام السوري.
ولا نستبعد أن يكون هذا «الانقلاب» في الموقفين السعودي والتركي هو السبب وراء إصدار التعليمات لوفد المعارضة الروسية بالانسحاب فورا من محادثات جنيف، والعودة إلى الرياض على ظهر الطائرة الخاصة التي خصصتها القيادة السعودية لهم في مطار جنيف.
صحيح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفى بسخرية تقارير روسية عن وجود حشودات عسكرية ضخمة للقوات التركية على الحدود السورية استعدادا للهجوم، ولكن هذا لا يعني أن التحشيد لم يتم فعلا، وأن هناك سيناريو جديدا للتصعيد العسكري بعد سقوط الرهان على الحل السياسي في جنيف، واستعادة الجيش السوري لمواقع عديدة وبسرعة قياسية، ومن غير المستبعد تسليح المعارضة بأسلحة نوعية طالما طالبت بها.
وزراء دفاع حلف الناتو سيجتمعون في بروكسل الأسبوع المقبل لبحث الاستعداد السعودي لإرسال قوات برية، ووضع الخطط حول كيفية التعاطي مع تغيير موازين القوى لصالح النظام السوري، والبدء في «غارات جوية جديدة لإنهاء حالة الفوضى التي أحدثتها غاراته الجوية الأولى قبل خمسة أعوام».
السيد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي ظل، وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، يكرر مقولته الشهيرة «الأسد سيرحل بالحل السياسي أو بالحل العسكري إذا تعذر الأول»، فهل الاستعداد لإرسال قوات برية سعودية إلى سورية يجسد اليأس والانتقال إلى الخيار العسكري؟
أي قوات برية ترسلها السعودية وحليفها التركي إلى سورية لن تكون قطعا لمحاربة «الدولة الاسلامية» وإن كانت هذه هي الذريعة المعلنة، وإنما الحيلولة دون سقوط مدينة حلب العاصمة الاقتصادية في أيدي قوات الجيش العربي السوري، والتقدم نحو دمشق بطريقة أو بأخرى لإسقاط النظام إذا وجدت الطريق سالكا، وإعادة الثقة لقوات المعارضة المسلحة التي تضعضعت أخيرا، وخاصة في صفوف «جيش الاسلام» بعد اغتيال زعيمه زهران علوش، و«جيش الفتح» الذي يتعرض لضغوط كبيرة في إدلب وجسر الشغور، وقصف روسي مكثف.
البروفيسور بول كينيدي مؤلف الكتاب الأشهر حول انهيار الامبراطوريات على مدى التاريخ، لخص أسباب الانهيار في ثلاثة أبرزها: الأول: التوسع العسكري في ظل عدم وجود الغطاء الاقتصادي الكافي مما يؤدي إلى إفلاسها. الثاني: التدخل العسكري في دول أجنبية خارج حدودها، مما يعني التمدد أكبر من قدراتها العسكرية وجيوشها ناهيك عن إرسال قوات إضافية. الثالث: تضعضع الأمن الداخلي بسبب التركيز على التدخلات الخارجية، وحشد كل الإمكانيات المالية والبشرية لدعمها، مما يؤدي إلى تقويض الامبراطورية من الداخل، وتصاعد الاضطربات والثورات الداخلية.
نعلم جيدا أن السعودية ليست إمبراطورية عظمى على غرار الامبراطوريات الرومانية، والفارسية والأموية، والعباسية، مثلما نعلم أيضا أن الامبراطورية العثمانية انهارت، وأن محاولة الرئيس رجب طيب أردوغان إحياءها ما زالت متعثرة، ولكن هذه الأسباب الثلاثة تنطبق عليهما بطريقة أو بأخرى، مثلما انطبقت على الامبراطورية السوفيتية أيضا قبل ثلاثة عقود، وربما الأميركية لاحقا.
السعودية تخوض حربا برية وجوية منذ 11 شهرا في اليمن، ضد أكثر الدول فقرا في العالم، وأقل الأعداء تسليحا (الحوثيون وجيش صالح)، ومع ذلك لم تستطع حسم هذه الحرب لصالحها وحلفائها، كما أن قدراتها الاقتصادية المتراجعة، بسبب انخفاض عوائد النفط، لا تؤهلها لخوض حروب أخرى أكثر تعقيدا، وفي مواجهة أعداء أحدث تسليحا، وأكثر قدرات عسكرية.
السعودية وتركيا ومعهما بعض الدول الخليجية لا تخوضان حربا ضد الرئيس بشار الأسد وجيشه، وإنما ضد روسيا وإيران وحزب الله، وربما الصين في مرحلة لاحقة، مثلما قلنا ألف مرة في السابق أننا نستطيع التنبؤ بموعد بدء الحرب، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بتطوراتها والمشاركين فيها، ناهيك عن نهاياتها. المنطقة أمام مغامرة عسكرية، أو بالأحرى مقامرة سعودية جديدة، مبعثها اليأس والإحباط من عدم القدرة على حسم الحرب في اليمن التي تحولت إلى حرب استنزاف مالي وبشري واستراتيجي، وعدم القدرة في الوقت نفسه على تشكيل تحالف «إسلامي سني» لمواجهة القوة الإيرانية المتصاعدة وهزيمتها، فهل نحن أمام «نمر جريح» يوجه خبطات عشوائية هنا وهناك؟
لن نستبق الأحداث، ولن نستعجل إصدار أحكام حول ما يمكن أن تنتهي إليه هذه المغامرة، ولكن كل ما نستطيع أن نقوله أن الانتصار فيها غير مضمون، والمتغطي بأمريكا عريان، وننصح أصحاب القرار في السعودية بالاستفادة من دروس حرب اليمن أولا، وقراءة كتب أساتذة مثل بول كينيدي، أيان موريس، ونيال فرغيسون، قبل أن يرسلوا أي قوات برية إلى سورية. نعلم جيدا أنهم لن يعملوا بهذه النصيحة، مثلما تعاطوا مع مثيلاتها في ظل التغيير الكبير في سياسات المملكة واتسامها بالاندفاع وفق ما أطلق عليه بعض كتابها «عقيدة سلمان» التي ترفض «التردد» و«التأني»، قبل اتخاذ أي قرار سياسي، أو استراتيجي، وهي التي سادت السنوات الثمانين السابقة.
إنها الحرب إذا.. وهناك من يتسرع خوضها؟ إذا كان الحال كذلك، وهذا هو الأرجح، فإننا سنشاهد العقيد العسيري كثيرا جدا في الأيام المقبلة، وربما سيحتاج إلى أكثر من نائب أو مساعد.. فهذه حرب إذا اندلعت، ستغير وجه المنطقة وحدودها وخرائطها وحكوماتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى