الرأي

عيادة تجميل وحبات سامة

قبل أن تشتهر إحدى عيادات الدار البيضاء بسمعة لافتة في التجميل وتزيين ملامح الوجوه والأجساد، إلى درجة استقطاب الزبائن والرواد من خارج المغرب.. سيفكر مقاومون مغاربة في جيش التحرير، إبان اشتداد المواجهة مع الاستعمار الفرنسي، في أساليب التنكر وتغيير الملامح.
لئن كانت العيادة إياها عرفت بفتوحات طبيب فرنسي غير أشكال كثيرين وكثيرات، لناحية تخليصهم من العيوب الظاهرة التي لا يشعر بها إلا من يحملها، ممن ينزعجون لرؤية وجوههم وأجسامهم أمام المرآة وركام الملابس التي لا يقوون على ارتدائها، بسبب النحالة أو الوزن الزائد، فإن عيادة أخرى سبقت إلى هذا النوع من الجراحات، لكن بأساليب غير متطورة، تحت تأثير الضرورة، وليس إبراز المفاتن. ومن ليس له غير الجمال أنى له أن يخفيه عن الناظرين.
حدث أن أحد المقاومين أصيب بشظية انفجرت في جانب من وجهه، وأوقعت به جروحا غائرة، وعلى رغم خضوعه لعلاج شبه بدائي، فقد أصبحت تلك العاهة من العلامات الدالة عليه. وكاد يتعرض للاعتقال أثناء حملات تفتيش ودهم، لولا أنه استطاع بحدسه اليقظ الإفلات من الكماشة. ولأنه كان من بين الشخصيات البارزة في التأطير والاستقطاب، سيتم البحث في وسيلة لتخليصه من تلك العاهة ليتمكن من حرية الحركة.
كما تحتاج المقاومة إلى السلاح والمال وملاذات الاختباء بعد تنفيذ العمليات، تحتاج أيضا إلى التفكير والتخطيط وإعداد الرجال. وبالقدر نفسه تتطلب المزيد من الإجراءات الاحترازية. فقد دخل الرداء النسوي بالكعب العالي والجلباب ضمن احتياطات التنكر والاختفاء. ولازالت نساء شجاعات يتدثرن برداءات تسدل لإخفاء السلع المهربة عبر الحدود الوهمية في مناطق شمال المغرب.
في مثل اندلاع حركة المقاومة، يعتمد الاحتلال الأجنبي على بعض المخبرين المحليين الذين يرتضون القيام بهكذا أدوار. ومنذ أن كانت حركات المقاومة والتحرير في مواجهة المد الاستعماري، وهي تعاني من ظاهرة المخبرين المحليين. لذا انتشرت في أوساط خلايا المقاومة في الدار البيضاء تحديدا، معلومات تفيد بأنه تم التعرف على المقاوم الداحوس إثر إصابته في حادث تفجير قنبلة، وأن عمليات البحث عنه لا تترك أي موقع محتمل بوجوده وتحركاته، اعتمادا على معطيات تؤكد أنه يحاول دائما إخفاء وجهه، جراء الحادث. ولم يكن ليلتفت إلى هذا الإزعاج، أمام نبل حركة المقاومة، لولا أنه تيقن من أنه قد يقود إلى التعرف عليه واعتقاله. لا وقت إذن لإزالة الأثر البادي على تقاسيم الوجه، إلا بدافع محمود في النية والإرادة. وهل لرجال المقاومة من وقت يضيعونه في تحسين مظاهرهم، والبلاد تعاني من عيوب الاحتلال التي تضرب الوجوه والقامات ومظاهر الهوية والشخصية المتحررة؟
يستحضر الدكتور الراحل عبد الكريم الخطيب الواقعة بجزئياتها الدقيقة. فقد روى أن الشهيد محمد الزرقطوني قصده إلى عيادته في الدار البيضاء رفقة مقاومين، وسأله إن كان في استطاعته إجراء عملية جراحية للمقاوم الداحوس، تتلف المعالم التي بات يعرف بها. فالجراحة واحدة أو هكذا على الأقل تبدو في اللحظات الحرجة، ما يسري على مجالها الباطني لن يكون عسيرا في الجزء الظاهر من الجسد. ولنا أن نتصور كيف أن الطبيب الفيلسوف ابن سينا يجري عملياته الجراحية، في فترة لا تخدير فيها ولا آليات حادة ودقيقة، قبل أن تنوب الأشعة البنفسجية عن المقص والموسى وأدوات الجراحة. فالضرورة تبقى دائما أم الاختراع الذي أنقذ البشرية من أمراض صارت اليوم تقرن بالتخلف وغيره.
ليعذرني الصديق الدكتور العباسي الذي عرف عنه أنه يجري أصعب وأدق العمليات في ظروف لا تكون دائما مواتية، ولعل سرد بعض الوقائع لا يحتم الإلمام بخبرة طبية أبجيدية، فقد نعت المغاربة من لا يعرف بأنه «أباجدي» أي يجهل تركيب الحروف الأولى في المعرفة. والأهم أن الدكتور الخطيب عاين وضعية المقاوم الداحوس، ونقله إلى مصحته. ومما رواه أنه كان يباشر عمليته الجراحية، فيما المقاوم أخرج مسدسه ووضع أصبعه على الزناد.
سأله لماذا؟ فرد الداحوس: من يدري فقد تداهمنا القوات الاستعمارية في أي مكان. وأضاف من ملح الطعام أن المقاوم كان صبورا لا يتألم. كما كان مقاومون آخرون يتحلون بشجاعة نادرة، ليس أقلها أنهم يتجرعون حبات السم لدى وقوعهم رهن الاعتقال للإبقاء على أسرار المقاومة دفينة الصدور التي تواجه القتل بإباء وجرأة نادرين.
وقتها لم يدر في خلد أحد أن الشهيد الزرقطوني الذي أنقذ حياة رفيقه الداحوس، سيحذو بدوره حذو الشهداء الذين تجرعوا مرارة الموت، ضدا على الاستسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى