الرأي

في الدفاع عن الذاكرة

في الذكرى الأربعين ليوم الأرض الفلسطيني تلوح في الأفق عوامل عدة تستحق الرصد، أبرزها المدى الذي بلغه تراجع أولوية القضية على الأجندة العربية. وهو ما اقترن باختراقات إسرائيلية كبيرة للنخب والأنظمة السياسية في المشرق العربي بوجه أخص، حتى بدا وكأن ما يسمى بالتنسيق الأمني الذي ظل وصمة في جبين السلطة الفلسطينية جرى تعميمه بحيث وصل إلى دوائر السلطة في أقطار عربية عدة، وذلك إنجاز إسرائيلي كبير خصوصا حين لامس التنسيق دوائر القرار العربي. ورغم أن تل أبيب تحيط ذلك الإنجاز بأستار من السرية والكتمان لا تفضح النخبة المتواطئة أمام شعوبها، إلا أنها ما برحت تتباهى به وتشير إليه بعبارات غامضة ومبهمة. وإلى جانب تواتر حديثها عن الانضمام إلى محور «الاعتدال العربي» في مواجهة الإرهاب تارة وإيران تارة أخرى، فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعلن في تصريحات عدة عن احتفاظه بعلاقات طيبة مع بعض القيادات العربية. كما أن الصحافة الإسرائيلية دأبت على الإشارة إلى دفء تلك العلاقات وعن الاتصالات الهاتفية المستمرة بين نتنياهو وعدد من قادة أهم الدول العربية. وما نشرته بعض الصحف الإسرائيلية عن العقبات التي تحول دون إتمام الاتفاق على عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، يشكل مفارقة في هذا الصدد، ذلك أن الأتراك في التعبير عن تضامنهم مع قطاع غزة كانوا قد عرضوا فكرة إقامة محطة كهرباء في البحر تغذى القطاع. ورغم أن الإسرائيليين لم يعترضوا على ذلك إلا أنهم ترددوا في الموافقة على الفكرة بدعوى أن تنفيذ المشروع قد يثير حفيظة الأطراف العربية المشاركة في محاصرة القطاع، وهي حريصة على تجنب ذلك الاحتمال!
اقترن تعميم التنسيق الأمني بصورة نسبية بين بعض الأنظمة وإسرائيل باختراقاتها الواسعة لقطاع الأعمال العربي تحت لافتات ومسميات مختلفة. ولم يكن مستغربا والأمر كذلك أن يصبح لإسرائيل رأي في الخرائط الجديدة التي يعاد رسمها للمشرق العربي. أتحدث هنا عن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لموسكو التي سبقتها زيارة قام بها رئيس جمهورية الدولة العبرية، إذ الحديث متواتر عن أنه كانت على رأس أهداف الزيارتين مناقشة الضمانات التي تطلبها إسرائيل لإنهاء المباحثات الجارية حول مصير النظام السوري، الذي باتت موسكو ممسكة ببعض مفاتيحه.
إلى جانب تلك الصفحة القاتمة فإن الوضع الفلسطيني لا يخلو من قتامة تتمثل في إفلاس السلطة وانهيارها وصراعات الرفاق حول خلافة أبو مازن. مع ذلك فإن انتفاضة الشباب الفلسطيني ضد الاحتلال تمثل ضوءا يخترق القتامة ويخفف من وقعها. صحيح أن أحدا لم يراهن يوما ما على إنجاز تحققه السلطة التي ابتدعت حكاية التنسيق الأمني لحساب الإسرائيليين. إلا أن الأنظار ظلت طول الوقت متجهة صوب منظمات المقاومة، التي أصبحت شوكة في خاصرة إسرائيل، وإعلانا عن رفض الاستسلام للهزيمة.
صحيح أن غزة أصبحت رمزا للصمود والتحدي وفرضت عليها الحسابات السياسية والعربية أن تظل في موقف الدفاع، إلا أن الشباب الفلسطيني تجاوز الحدود وتمرد على تلك الحسابات بانتفاضته الثالثة التي عرفت إعلاميا باسم «هبّة القدس» حتى أصبح أولئك الشبان والفتيات الشجعان يشكلون الآن مصدرا لانزعاج الإسرائيليين وخوفهم. من المفارقات أن الحكومة الإسرائيلية باتت أكثر قلقا إزاء تنامي ذلك التمرد الخارج عن سيطرة الجميع، في حين أنها لا تستشعر القلق ذاته إزاء منظمة المقاومة.
في حديثنا عن الضوء الذي يخترق القتامة، لا نستطيع أن نتجاهل التقدم الذي تحققه حملة مقاطعة إسرائيل في العالم الخارجي، على الصعيدين الأكاديمي والاقتصادي فيما يخص بضائع المستوطنات المقامة على الأراضي المحتلة، وسيظل من المفارقات التي تثير الانتباه أن يتزامن اختراق إسرائيل للمجتمعات العربية مع انفضاح أمرها وانكشاف سقوطها الأخلاقي والسياسي في بعض الدوائر الغربية.
ذكرنا مركز الإحصاء الفلسطيني في ذكرى يوم الأرض التي حلت في 30 مارس (اليوم الذي احتلت فيه إسرائيل 21 ألف دونم في أراضي الجليل والنقب عام 1976) أن الاحتلال اغتصب حتى الآن 85 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية «27000 كيلومتر مربع». ولم يبق للفلسطينيين أصحاب الأرض سوى 15 في المائة فقط من بلادهم، وتمدد الاحتلال بحيث سيطر على 24 في المائة من مساحة قطاع غزة الذي أصبح أكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان، كما سيطر على أكثر من 90 في المائة من مساحة غور الأردن بما يشكل ما مساحته 29 في المائة من مساحة الضفة الغربية.
في إطار حملة تهويد القدس فإن سلطات الاحتلال دأبت على هدم منازل الفلسطينيين ومنع إصدار التراخيص لهم في حين صادقت في عام 2015 على بناء أكثر من 12 ألف وحدة سكنية في المستعمرات المقامة بالقدس الشرقية، كما صادقت على بناء 2500 غرفة فندقية، في الوقت ذاته، فإن المستوطنين في الضفة الغربية وصل عددهم إلى 600 ألف شخص، نصفهم تقريبا في محافظة القدس.
في تقرير مركز الإحصاء الفلسطيني معلومات أخرى غزيرة تحاول إحياء الذاكرة في المناسبة باعتبار أن ذلك أضعف الإيمان. إذ طالما عجزنا عن الدفاع عن الأرض في الواقع، فلا أقل من أن نبقي عليها في الذاكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى