الرأي

كيف تعرف أنك حمودة!

جاري حمودة بورجوازي صغير جدا، لا يُرى بالعين المجرّدة. هو أحد قدماء المرابطين في مقهى «الصداقة». دائم الشكوى من آلام في ظهره وأوجاع في وطنه. يعاني من التقدم في السن.. فقد استطالت أسنانه الأمامية حتى صارت كأسنان المشط. مقبل على الدنيا والدنيا معرضة عنه. لا يدخن.. انقطع عن التدخين لأنه أحدث ثقبا في ميزانيته وكاد أن يحدث ثقبا في حنجرته. إذا التقيت به يوما لا تحدثه عن الفساد الذي سيقطع الطريق على أحلام بناتنا وأبنائنا.. فقط اُدعُه إلى إبريق شاي وكيلوغرام من الإسفنج. سيفرح كثيرا مثل طفل.
دائما يقول إنه موظف متفان.. أشرف على الفناء من كثرة التفاني في عمله.. ودائما أقول إنه لص صغير في طريق النمو.. تمكّن بفضل الشيطان من سرقة الإبرة.. ويطمح إلى سرقة الجمل. الجمعة.. تراه في المسجد محاطا بالمؤمنين، يتمتم متضرّعا: «يا ربي سامحني». السبت.. تراه في الملهى محاطا بالمدمنين، يصرخ باكيا: «يا ربي سامحني».
حمودة يعاني من الاحتباس البولي نهارا، ومن هجمات البق ليلا. لا يصل رحمه لأنه رجل بدون رحم. يغسل أسنانه بالمعجون والفرشاة كل ليلة. يردّد النشيد الوطني سرا وعلانية. كثيرا ما تصيبه حالة من التجول اللاإرادي، فيخرج من داره كي يتسكع في وسط المدينة وداخل المحطة الطرقية وأمام بائعي كتيّبات «حصن المسلم» أمام المساجد.
حمودة طبيب رغم أنفك. مريض.. عارٍ عن الصحة. لا يؤمن بنظرية مداواة الخوخ لنفسه قبل مداواة الناس. آلام مبرحة تفتك بظهره ولا يستطيع لها علاجا. تشتكي له من ألم في ظهرك، فيشخصه على الفور، ويقدم لك وصفة طبية من أدوية في متناول فمك لأنها موجودة بالبيت باستمرار.. كالتوابل والأعشاب اليابسة وورقة سيدنا موسى.. لكنه غير مسؤول عن أي مضاعفات يمكن أن تحصل بعد استعمالك لوصفته. وقد لقي رجلا حتفه متأثرا بوصفته.. وعندما عاتبوه على تيتيم أطفال الرجل، أنكر تماما معرفته به وقال بكل بجاحة العالم الثالث: «عادي.. كبار الأطباء يرتكبون أخطاء طبية» !
حمودة عالم اجتماع رغم أنفي المزكوم: يحلّل الظواهر الاجتماعية، ويمتلك حلولا ناجعة لكل المشكلات. حل مشكلة الشغب في الملاعب الرياضية: إطلاق كلاب متوحشة على المشاغبين وتركها تنهش لحومهم القذرة. حل مشكلة التحرش الجنسي: إحصاء وإخصاء المتحرشين، ليس عبر استئصال بيضهم الفاسد بل عبر إبادة الدّود الذي ينغل في أجهزتهم. حل مشكلة حوادث السير: تكوين فرقة من البوليس الملاكم اختصاصها توجيه لكمات مباشرة إلى وجه كل من يخرق قانون السير (إن كان فعلا يتوفر على وجه) دون حاجة إلى تصوير مخالفات رعناء بالكاميرات.. فقط تصوير كدمات زرقاء على «الكمّارات».
حمودة مفتي رغم أنوفنا جميعها، يحرّم ويحلّل دون أن يفقه شيئا في علوم الفقه. يحرّم مشاهدة المسلسلات التركية لأن ممثلاتها فاتنات ومتلألئات مثل نجوم متوهجة في ليلة غاب عنها القمر. حمودة لا يكف عن استعمال عينيه في إجراء مسح طبوغرافي لتضاريس الأجساد الأنثوية التي تمر أمامه يوميا.. ولا يكف عن استعمال أصابعه في استخراج كنوز مدفونة داخل جيوب أنفه. يصلي ويقطع ويسكر ويقطع، ويعطي الرشوة لحجز مقعده في الطائرة إلى الحج.. فلبيك اللهم لبيك. حمودة يساهم في جمع المال لمساعدة الفقراء.. ويطرد جراد الطفيليّين من موائد المآتم والأعراس.. وإذا عرضت عليه تدخين الكيف لضبط موجات مخه المشوش، فلن يرفض. لاعب ﮔولف ماهر هو.. من «الشقف» إلى السقف.
حمودة مناضل نسواني، تجده دائما في الطليعة، يزغرد ببراعة، ينظم الاحتجاجات، يؤلف الشعارات ويعتصم مع النساء المتضررات أمام المقاطعات والمستشفيات ووداديات السكن ومؤسسات القروض الصغرى. كفى.. إليك مشهد النهاية: خارجي نهارا/ مئات النساء يهتفن ضد غلاء أسعار الحليب وضعف صبيب الأنترنت/عرق يعلو الوجوه/ حمودة يهتف بحماس/ لقطة مكبّرة ليده وهي تتحسس منطقة حساسة متحررة من ثقل الثياب/ مئات الأحذية و«الصنادل» تنهال على رأس حمودة / حمودة يركض مذعورا وسط  غابة من السيقان المشعّرة/ إظلام..
آخر الأخبار تفيد باختفاء حمودة عن الأنظار، هو موضوع مذكرة بحث.. صوره معلقة في كل مكان. هناك مكافأة مجزية لمن يخبر بمكان وجوده. عندما تتطلع إلى وجهك في المرآة صباحا، أرجو أن تُدقق جيدا في ملامحك.. فربما تكون أنت حمودة.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى