شوف تشوف

الرأي

لا عراق.. ولا هم يحشدون!

إذا كانت مشروعية «الحشد الشعبي»، المذهبية والتعبوية، تبدأ من فتوى آية الله علي السيستاني، المرجع الشيعي الكبير، حول استحقاقات «الجهاد الكفائي»؛ فإنّ معضلات عديدة تزايدت، وتقاطعت وتعقدت، لكي تصنع كلّ معضلة منها صيغة وطنية، وأخرى سياسية ودستورية وحقوقية، تطعن في صميم مشروعية «الحشد».
فإذا ابتدأ المرء من حقائق شكلية، رغم أنها بالغة الأهمية حول المحتوى أسوة بالشكل، مثل تواريخ قيادات «الحشد» التي لبّت نداء السيستاني، أو بالأحرى انقضّت عليه وانتهزت غاياته وانتهكتها؛ فإنّ ماضي نائب قائد «الحشد» ـ جمال جعفر محمد، المعروف بلقبه الأشهر: أبو مهدي المهندس ـ يكفي لتسويد مزاعمه «الوطنية» تجاه العراق، بوصفه وطن العراقيين بطوائفهم ومذاهبهم كافة. وليس قتاله في صفوف القوات الإيرانية، خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، بالدليل الأول على سواد الصفحة؛ مثلما أنّ تبعيته، العسكرية والميدانية والسياسية والمذهبية، للجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، هي الأسبق في إضعاف وطنيته العراقية. ثمة، قبل هذه وتلك، طراز من البغضاء العمياء يحمله المهندس للعراقيين السنّة بصفتهم هذه، في المطلق، وفي التعميم المذهبي والتجريدي الصرف.
أمّا إذا انتقل المرء إلى حقائق الأرض، أي العمل العسكري الميداني لقوات «الحشد» عموماً، ولمشاركاتها في القتال ضد «داعش» خصوصاً؛ فإنّ أعمال التصفيات الشخصية والتطهير المذهبي والمناطقي ضدّ العراقيين السنّة تجاوزت، بكثير، ما يحلو لقيادات «الحشد» أن تصفه بـ«الحالات الفردية المنعزلة»، وهذا ما سجّلته منظمات حقوقية محلية ودولية عديدة، وشهدت عليه وثائق دامغة وأشرطة فيديو بالغة البشاعة. الفظائع هنا ليست سلوكيات عُصاب مذهبي، فردي أو جَمْعي، سيّان؛ بل هي أفعال مرسومة عن سابق قصد، تخدم سلسلة أغراض محددة بدورها، ذات وظائف سياسية قصيرة الغاية وبعيدة المدى في آن معاً.
وليست المأسسة الرسمية لقوات «الحشد»، طبقاً لقرارات رئيس الوزراء حيدر العبادي الأخيرة، سوى انحناءة طبيعية أمام اشتراطات عليا تنبثق مباشرة من تلك السياسات؛ وفي طليعتها، غني عن القول، ترسيخ يد عليا وطولى، مذهبية الطابع، في تسيير دفة الحياة الداخلية، على صعيد القوانين والبرلمان والانتخابات، مثل الجيش والأمن ومؤسسات الفساد. ولم يكن ينقص «الحشد»، في المستوى السياسي والحزبي بادئ ذي بدء، سوى أن يُضرب عرض الحائط بموادّ الدستور، فتعلن منظمة عسكرية صرفة (تجمع بين استقلالية الميليشيا والتابعية لوزارة الدفاع، معاً!) أنها تنوي خوض الانتخابات بصفتها هذه… على نقيض قانون الأحزاب الذي يمنعها، كمجموعة عسكرية، من الاشتراك في الانتخابات التشريعية.
وأمّا إزاء حشد «الحشد الشعبي» لصالح النظام السوري، بإشراف مباشر من الجنرال سليماني، خاصة في صفوف حركة «حزب الله ـ النجباء»؛ فإنّ ذريعة اعتماد الخيار العسكري لقتال «داعش» و«الإرهابيين» و«التكفيريين» لا تصبح واهية ومفتضَحة فحسب، بل تُضاف إلى تراث سابق كانت «عصائب أهل الحق» قد دشنته على الأرض السورية، أسوة برفاق السلاح والعقيدة في ميليشيات «حزب الله اللبناني. ورغم فشل «النجباء» في تعبئة الأعداد التي نذروا أنفسهم لإرسالها إلى جبهات حلب والغوطة، في سوريا؛ فإنّ حميّة التحريض المذهبي لم تُنتقَص البتة، ولم تنخفض، بل ازدادت فجوراً في تسعير البغضاء.
لا عراق، إذن، لدى غالبية فصائل «الحشد الشعبي»، إلا إذا تمذهب ذلك «العراق» وتطيّف وفق خطاب عقائدي وحزبي فئوي مريض، لم يبق فيه من فتوى «الجهاد الكفائي» إلا المسمّى اللفظي الذي فقد كلّ مضمون تأسيسي؛ حتى إذا كان السيستاني، صاحب الفتوى الأمّ، قد عاد إلى التشديد عليها مؤخراً، من باب رصّ صفوف أخذت تتشرذم وتتنازع، وصار تنافسها على كسب ولاء طهران أشدّ أهمية من، أو بما لا يُقاس مع، ولائها للبلد. لا عراق، إذن؛ ولا مَن، خدمة لصالحه الوطني، يحشدون!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى