الرأي

لمن استطاع إليه سبيلا

مهما تمنى المرء أن يداهمه الموت في الديار المقدسة، وأن يدفن جثمانه في جوف مقبرة مكة المكرمة أو المدينة المنورة، فإنه يرفض أن ينتهي به المطاف تحت مقصلة رافعة أو تحت أقدام حجاج يهوون الركض فوق الأجساد.
في هذه الأماكن المقدسة مات عدد من نجوم الكرة المغربية دون أن يتمكن أحد من فك لغز الوفاة، فقد كان قدر أحمد الصويري، الأب الروحي للنادي القنيطري، أن يلقى ربه في الأراضي المقدسة ويدفن بمكة المكرمة، وعلى شاهد قبره كتبت جملة تبني رجلا معلوما للمجهول: «هنا يرقد الجثمان الطاهر لمسلم مجهول الاسم والهوية».
بدأت الحكاية في موسم الحج سنة 1988، حين خصصت بلدية القنيطرة لعائلة الصويري تذكرتي سفر إلى الديار المقدسة من أجل أداء المناسك، كان الرجل يعتزم السفر رفقة زوجته لكنها اعتذرت، وعرض الفكرة على والدته إلا أن مرضا داهمها، لكن سيدة تدعى «الشلحة» علمت بالأمر فاتصلت بالصويري والتمست منه تمكينها من أداء مشاعر الحج، وقبول صفة رفيق فاستجاب لطلبها.
انتظر أفراد عائلة الصويري أياما عديدة في بهو مطار النواصر بالدار البيضاء، إلى أن أفرغت آخر طائرة قادمة من جدة ما في جوفها من حجاج بيت الله، وتأكد أن الاختفاء أصبح أمرا مكتوبا. كانت «الشلحة» بمثابة العلبة السوداء التي تبتلع سر الاختفاء، لكن المعلومات التي قدمتها لأفراد العائلة زادت الأمور غموضا، بعد أن اختزلت النكبة في نصف سطر «الصويري خرج ولم يعد».
في شهر يناير من سنة 1980، قدر للنجم المغربي مصطفى شكري، الشهير بـ«بيتشو»، والمحترف في نادي الوحدة السعودي، أن يموت في مكة المكرمة، قيل إنه أصيب بورم سرطاني في الأمعاء، رغم أن الفحص الطبي الذي خضع له قبل شهرين نفى هذه الفرضية. قبل أن يتم ترحيل جثمان «بيتشو» إلى الدار البيضاء، دعي شقيقه على عجل للالتحاق بمكة، وفي المستشفى تعرف على جثة شقيقه وطلبت منه سلطات السعودية التوقيع على وثيقة كتبت عليها عبارة «الوفاة تمت بدون عنف»، لم يفهم مغزى هذه الجملة، طمأنه طبيب مصري قائلا: «العملية فشلت» وحين أزاح الكفن الذي كان يغطي جسد «العود» لم يتبين له أي أثر للجروح لكنه وقع على مضض.
دفنت العديد من الأسرار مع شكري في قبره، وظل الكثير من رفاقه يفضلون الصمت بدل نسج روايات قد تدخل الجميع في متاهات أخرى. فسكت الجميع عن الكلام المتاح.
من الصدف الغريبة في تراجيديا موت نجوم الكرة المغربية في الديار المقدسة، أن الفقيد شكري أجرى آخر حوار صحفي له قبل وفاته في مكة، مع الواصف الرياضي المغربي محمد الزوين الذي كان موفد الإذاعة المغربية إلى المملكة السعودية في بطولة عربية لكرة السلة، والذي توفي بدوره في الفترة نفسها والبلد ذاته، لكن بلغز آخر أكثر تعقيدا. فلا أحد يملك حقيقة الموت المفاجئة لصحفي كان في قمة لياقته البدنية والمهنية.
اقتسم الزوين و«بيتشو» موت الاغتراب ودفنا معا في مقبرة «الشهداء» في الدار البيضاء، ومنذ ذلك الحين لم يعد لهما ذكر في مرثيات الكرة المغربية، وكأنهما ماتا في الطريق السيار.
كلما زار فريق أو منتخب مغربي المملكة السعودية، استفاد اللاعبون والمدربون والإداريون والصحافيون من عمرة مجانية، ومن اللاعبين من يفضل التسوق في محلات جدة على قضاء المناسك، وكأنه سليل أسرة أبي لهب وامرأته حمالة الحطب.
خلال دورة كأس العرب سنة 2012 بجدة، حدثني صحفي عراقي عن محترف من بلاد الرافدين، رفض رجم الشيطان أثناء المناسك، بدعوى أن الشيطان لم يمسه بسوء. وفي بداية الألفية الثالثة ضرب لاعب الوداد ماخيطي مدربه بونيفاي بحذائه، حين أقدم هذا الأخير على تغييره في مباراة جمعت الهلال السعودي والوداد البيضاوي بالرياض، منذ ذلك الحين طاردت اللعنة اللاعب ماخيطي الذي تحول إلى متسول، لأنه لم يكتف بضربة «الكَزمة» بل رمى مدربه الفرنسي بالجمرات، قبل أن يصدر في اليوم الموالي بلاغا يعتذر فيه للشيطان ويؤكد عمق العلاقات التي تجمع الطرفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى