الرأي

ليس حنينا فقط

كثيرون ينظرون برومانسية طافحة لما أبدعته البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي رومانسية أقرب إلى «الوباء الجماعي» الذي يجتاح كل مثقفي العالم اليوم، شعرا ورواية وقصة ونقدا وفلسفة وغناء ولحنا وتشكيلا ومسرحا، وكل الأسماء التي ترد على الذهن اليوم، عند ذكر مجال إبداعي تتحدر من هذا الزمن الجميل. فعندما نقول الشعر العربي الحديث مثلا، نقول مظفر النواب ونزار قباني ومحمود درويش وأدونيس وسميح القاسم، وعندما نقول الرواية نقول أيضا نجيب محفوظ وعبد الرحمان منيف وصنع الله إبراهيم وحيدر حيدر، وقس على ذلك في المجالات الأخرى.. لذلك نجد كثيرين، اليوم، وهم مصيبون إلى حد كبير، يتكلمون عن عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات بالكثير من الشجن، الذي يصل إلى درجة «الكفر» بكل ما أتى ويأتي بعد ذاك الزمن. فلا نجدهم يعرفون، أو هم في حاجة أصلا لمعرفة الشعراء الشباب، من قبيل الفلسطيني «مروان البرغوتي» أو المصريان «علاء جانب» و«هشام الجخ»، والسعودي حيدر العبد الله، أو المغربيين «ياسين حزكر» و«عبد الله الصديق»، وحتى إذا اضطروا لقراءة الشعر الشبابي اليوم اضطرارا، لا يترددون في تصنيف مروان البرغوتي مثلا على أنه نسخة فاشلة عن محمود درويش، والأمر نفسه بالنسبة لهشام الجخ مع الأبنودي وأحمد فؤاد نجم.. للأمر ربما علاقة بحواجز نفسية وذوقية موغلة في الذاتية، ومتى كان للذوق الجمالي قواعد موضوعية وعقلية كما يقول إيمانويل كانط؟
أمر هذه القدسية المطلقة للنصف الثاني من القرن العشرين، لا يقتصر على العرب فقط، بل هو التوجه ذاته في الثقافات العالمية المعروفة، في أوربا وأمريكا الشمالية واللاتينية، ففي فرنسا هناك احترام لا مثيل له للويس أرغون وبول إلوار وبليز سوندرار وجاك بريفير في الشعر، وفي الرواية أيضا نجد تقديرا خاصا جدا لألبير كوهن وألبير كامو ومارغوريت يورسينار (بلجيكية تكتب بالفرنسية) وجون بول سارتر، فضلا عن القيمة الكبيرة لمبدعين، روائيين وشعراء عالميين آخرين من الولايات المتحدة وإنجلترا وإيطاليا وأمريكا اللاتينية، إذ بالرغم من كون أمواج الأدب في هذه الحواضر الثقافية العالمية هي أمواج متلاطمة لا تستقر على حال، فإن لهذه الثقافات رؤية خاصة للعقود الأخيرة من القرن العشرين. وإذا عدنا إلى مختلف التصنيفات التي وضعتها كبريات المجلات الثقافية ومراكز البحث عبر العالم، لأفضل رواية أو قصيدة أو كتاب نقدي أو فلسفي على مر العصور، سنجد أن أكثر من نصف محتويات هذه التصنيفات كتبت في النصف الثاني من القرن العشرين. والأمر ذاته في الفلسفة، فالحراك الثقافي والفكري الذي ساهم فيه إيمانويل ليفيناس وتزفيتان تودوروف وجوليا كريستيفا وميشيل فوكو وجاك ديريدا وبيير بورديو وحنا أرندت، ما زال حتى الساعة أفقا حقيقيا بالنسبة لفلاسفة اليوم وليس مجرد تراث مضى وانقضى، بل إن من هؤلاء، وبعضهم على قيد الحياة، أمثال تودوروف وكريستيفا، من لا يخفون هذا الحنين الكبير للعقود الماضية، منتقدين بكل شراسة تأثر الثقافة العالمية بالموجات الليبرالية المتعاقبة، والتي مست بكل تأكيد جوهر الثقافة كإبداع وحرية وذوق، ويكفي العودة لآخر كتاب أصدره تودوروف بداية سنة 2016، تحت عنوان «insoumis»، وهو عبارة عن بورتريهات أنجزها لعدة شخصيات عالمية، سياسية وحقوقية واقتصادية وفكرية، حافظت على طابعها الثوري الرافض للسلط، وانتزعت، بالرغم من الإكراهات والضغوطات التي واجهتها، احترام العالم، فإننا سنجد أن ثلثي هذه الشخصيات تنتمي للنصف الثاني للقرن العشرين. لذلك فالأمر أكبر من مجرد حنين.. إنه وجع، «لكنه وجع من نوع صحي يذكرنا بأننا مرضى بالأمل»، كما يقول درويش، رحمه الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى