الرأي

ماذا كان ينتعل القذافي؟

أمعن الحسن الثاني النظر في تقرير وضع على مكتبه يحمل صيغة «سري جدا». أعاد قراءته مرة ثانية، ثم طالب بإحضار مسؤول أمني كبير تولى إعداد ذلك التقرير الذي يهم العلاقات المغربية– الليبية.
كان يريد حل معادلات تعلق بالذهن، في كل مرة تثار أسباب الخلافات بين الأشخاص والدول. فوراء كل تصرف يوجد كم هائل من البواعث النفسية والسياسية. وعلى طريقة الربط بين المظهر والفعل كان الحسن الثاني يسعى دائما إلى إعادة تركيب الصورة، مثل مخرج سينمائي يقيس الحركات والمشاعر قبل الكلمات.
لم تكن المرة الأولى التي يدقق فيها الحسن الثاني في المعطيات التي ترد عليه، فقد كان شغوفا بالتفاصيل والشكليات. يضع التقارير جانبا ويصغي إلى تسلسل الأحداث ممن عاينها. يطرح الأسئلة ويستفسر عن أشياء تبدو أحيانا أقل مدعاة للتأمل. لكنه يرى فيها مفاتيح تفكيك الألغاز، مثل مشرحة التشخيص النفساني الذي يسبر أغوار الأعماق. وارتبط اللباس لديه برمزية عالية لم تتوقف عند تقاليد ارتداء الجلباب والبرنس، بل تخطتها نحو الاعتزاز بالشخصية المغربية. فقد ارتبط الطربوش بالحركة الوطنية إلى درجة نعته بـالطربوش الوطني»، كما هي تقاليد إحياء الذكريات الدينية والوطنية.
أسعفني الحظ في الاستماع لأكثر من قصة بهذا الصدد، ترتبط بالرغبة في معرفة المزيد عن خصوم الملك الراحل من السياسيين وقادة الدول. ولئن التعرف على شخصيات قادة الدول، يتم من خلال رصد أساليبهم في إدارة المفاوضات والتعبير عن المواقف والاستمالة نحو دعم هذا الخيار أو ذاك، يشكل أحد محاور الأداء السياسي، وتحديدا من خلال مهمة الاستدراج التي تكون عسيرة أمام قليلي الكلام، وقد تخطئ أو تصيب أمام عاشقي الثرثرة والحديث عن النفس بشراهة.. فإن الحسن الثاني كان يروق له أن يبدأ السياسة بالهندام الذي يكشف عن ميول ونزعة وشخصية صاحبه.
دلف المسؤول الأمني المعني بملف العلاقة مع ليبيا إلى القصر الملكي بفاس، كان عاد للتو من زيارة إلى طرابلس توجت بلقاء مع العقيد معمر القذافي. وفيما اعتبرت مهمته انتهت في هذا الحد، أعاده الملك الراحل إلى أجواء المقابلة التي كانت جرت تحت خيمة فسيحة أحالها العقيد الليبي إلى مكتب استقبالات. كان أول سؤال طرحه الحسن الثاني إن كان تم تصوير تلك المقابلة تلفزيونيا. وعندما رد المسؤول الأمني بأن المقابلة اقتصرت على أخذ صور عادية، توجه إليه بالسؤال مرة أخرى عما كان يرتديه القذافي، وتحديدا: هل كان ينتعل حذاء أم ممشاة؟
أجاب المسؤول الأمني بأن ما أثار انتباهه أن القذافي كان بين الفينة والأخرى يخرج قدميه من الممشاة وينظر إلى سقف الخيمة، ويبدو أحيانا كأنه لا يصغي إليه. ثم سأله عن نوعية المشروب الذي قدم له، فرد بأنه قهوة سوداء بدون سكر. وعما إذا كان لاحظ وجود ضيوف آخرين بعد انتهاء المقابلة، أوضح المسؤول الأمني أنه باستثناء حرسه وأحد كبار المسؤولين الأمنيين الذي كان رافقه خلال زيارته تلك، لم يكن هناك أي شخص آخر في الانتظار.
كانت المقابلة التأمت بطلب من العقيد القذافي الذي لم يفته استفسار المسؤول المغربي إن كان الحسن الثاني يعرف خبر ذلك اللقاء أم لا. لذلك أعاد التأكيد على صيغة سؤال العقيد القذافي الذي كرره مرات عدة. ابتسم الحسن الثاني وانتقل إلى استكناه تفاصيل المقابلة التي كان على علم بحيثيات الإعداد لها من البداية إلى النهاية، دون أن يكون القذافي يعرف ذلك.
في مثل هذه التفاصيل سمعت من مسؤول رفيع أن الحسن الثاني استفسر مبعوثه إلى الرئيس العراقي صدام حسين في ذروة أزمة الخليج الثانية: إن كان أبو عدي تمكن من خفض منسوب رمشات عينيه أثناء المقابلة، إضافة إلى السؤال إن كان يرتدي لباسا عسكريا أم مدنيا أثناء المباحثات، ولم يغفل عن احتساب الوقت الذي استغرقته عملية نقل المسؤول المغربي إلى القصر الرئاسي في بغداد. وكان من بين مواضيع الأسئلة ما يتعلق بعادة تدخين السيجار الكوبي الذي كان يأتيه هدية من الرئيس فيديل كاسترو.
بيد أن لون ربطة العنق التي كان يرتديها الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد ستثير فضول الحسن الثاني الذي فاجأ أحد مبعوثيه إلى الجزائر بالسؤال عن لونها. كما الأجواء التي هيمنت على المقابلة من حيث المكان وأعداد الحاضرين وأين كان يجلس الرئيس؟ فقد كان الاهتمام بهذه الجزئيات من بديهيات بروتوكولية يندرج ضمنها توقيت المباحثات السياسية التي كانت تتم ليلا في غالب اللقاءات مع المسؤولين العرب، بينما يكون الأمر محدودا في التوقيت نهارا بالنسبة لنظرائهم الغربيين، إلا فيما ندر، جراء ارتباطات عارضة.
لكن ما أغضب الحسن الثاني كثيرا أن الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين تعمد استفزاز مبعوثه الحاج أحمد أبا حنيني الذي زار الجزائر أسابيع قبل قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومن مظاهر ذلك الاستفزاز أن بومدين وضع مكتبه في مكان مرتفع، وحين هم المبعوث المغربي بتسليمه رسالة ملكية، بدا وكأنه ينحني أمامه لتقبيل يده. ونشرت تلك الصورة على نطاق واسع في الصحافة الجزائرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى