الرئيسية

ما قبل وبعد الاستحقاقات القادمة

أن يكون الفرقاء السياسيون في الأغلبية والمعارضة اتفقوا على صيغة لإبعاد حالات التفاني عن التأثير في مسار العملية الانتخابية، فذاك لا يعني أنها ألغيت من أساسها. فالاتفاق على عدم التقيد ببعض حالاتها قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، لا يفيد بأنها لن تطرح في المرحلة التعددية، أي بعد ظهور نتائج الاقتراع وتشكيل مكاتب البلديات والجهات، والشروع في ممارسة المسؤوليات المنوطة بالديمقراطية المحلية.

في فترات سابقة كانت قضية التنافي لصيقة، من حيث ترشح الوزراء، بالتجاوزات التي كانت تعرفها العمليات الانتخابية. ومن أجل الإمعان في العناد، كانت حظوظ بعض الوزراء تكون عاثرة، لتسويف فكرة أن الوزراء أنفسهم يمكن أن تتم الإطاحة بهم في بعض الدوائر، على رغم مواقعهم ومراكز نفوذهم. لكن حالات التنافي لم تتبدد، خصوصا عندما يكون المترشح الفائز بالطرق المعروضة سابقا وزيرا ورئيس بلدية، ويجمع بين مسؤوليات متعددة.

للمسألة وجهان يناقض أحدهما الآخر، فمن جهة يمكن للوزير الذي يتحمل رئاسة بلدية أو حتى جهة، أن يدفع بما يتوفر لديه من معطيات وتموقع في اتجاه أن تحظى الدائرة أو المدينة التي يمثلها بعناية أكبر، خصوصا على مستوى توزيع المشاريع والدفاع عنها في المجالس الحكومية، وأمام المؤسسة التشريعية بما ينعكس إيجابا على أوضاع الدائرة والإقليم في مرافق التجهيزات ذات الطابع المركزي. ومن جهة ثانية فإن وضعه الاعتباري أمام السلطة الوصية، لا بد أن يكون له تأثير واضح، على عكس رئيس بلدية لا يتمتع بنفس الصفة في السلطة التنفيذية.

عرف المغاربة نماذج لوزراء منتخبين أو غير منتخبين ركزوا جوانب من الاهتمام على المدن والأقاليم التي يتحدرون منها. ولم يكن هناك أي اعتراض على هذا الأسلوب، من منطلق أن كل وزير لو اهتم بتنمية مدينته وإقليمه، فإن ذلك قد يساعد في التخفيف من حدة الفوارق بين الفئات والجهات، خصوصا بالنسبة للمناطق التي لم تنل قسطها من توزيع مشاريع التنمية. غير أن التجربة في مجملها لم تكن بالقدر الذي كان يعول عليه، بدليل أن تقارير صادمة باتت تتحدث عن الخصاص الكبير في المرافق والتجهيزات الأساسية.

إذا كان الواقع الراهن يسائل التجربة برمتها، في ضوء الإقرار بعجزها عن الاستجابة لحاجيات السكان الملحة في شروط الحياة الكريمة التي تضمن حقوق التعليم والصحة والسكن والاستفادة من الخدمات الاجتماعية، فالأمر يخص السلطة التنفيذية، وكذا مجالات التدبير المحلي الذي عهد فيه إلى الجماعات المحلية بتدبير قطاعات عديدة، وسواء من خلال تجارب وزراء منتخبين يتولون تدبير الشؤون المحلية أيضا، فالثابت أن الخلاصات لم تكن مشجعة، بل إنها خيبت الآمال. ذلك أن التدبير المحلي الذي كان يفترض أن يحقق نوعا من الإقلاع استنزف موازنات في التسيير وأداء أجور الموظفين، عوض أن يتجه نحو دعم الاستثمارات المنتجة التي تكفل استيعاب المعضلات الاجتماعية في البطالة والتأهيل وإقامة أقطالب محورية.

الإقرار بالعجز يشكل دائما منتصف الطريق أمام مواجهة الحقائق. ومع حالات التنافي أو عدمها، فإن الحاجة أضحت ماسة لمعاودة النظر في منهجية ومسار الديمقراطية المحلية، لأنه إن كانت التجربة آلت إلى النتائج السلبية، ولم تفلح في تحقيق تطلعات الساكنة، خصوصا في الأرياف والأحياء الهامشية، على رغم ما كان يتم رصده من موازنات، بما فيها الضريبة على القيمة المضافة، فكيف سيكون الحال أمام تطور نوعي في الآليات المتطورة التي يضمنها التنظيم الجهوي.

الأكيد أن الخلل لا يوجد في القوانين التنظيمية ومجالات تحديد المسؤولية بين المنتخبين والسلطة الوصية فقط، فهي أشياء يمكن التغلب عليها بالمراجعة المستمرة للقوانين والآليات التي تسير بموازاة التطور الاجتماعي. ولكن العبرة تكون بالبرامج التي تنطلق من منظور شامل للتنمية، يراعي خصوصيات وخصاص كل جهة، عدا أنه يتطلب تضامنا متواصلا بين الجهات ذات الإمكانيات الكبيرة وتلك التي تعاني الخصاص.

بعد أربع سنوات على إقرار دستور فاتح يوليوز الذي اعتبر الأكثر تطورا في مسار التجربة الدستورية التي عرفتها البلاد، حان الوقت لبلورة معالم الوثيقة الدستورية، عبر إصلاحات اقتصادية واجتماعية يعاينها المواطنون على أرض الواقع. وليس أقرب إلى الحياة اليومية للسكان من العمل الجهوي والمحلي. لكن التنافي يمكن أن يتكرر عبر نفوذ من نوع آخر. فالجهات لا يجب أن تكون قلاعا تسلب من الدولة اختصاصاتها، ولكنها ينبغي أن تتكامل مع توازن السلطات المحلية والمركزية.

الديمقراطية ترتكز على فصل السلط بين ما هو تنفيذي وتشريعي وقضائي. فهل وجود وزراء منتخبين يحافظ على هذه الاستقلالية، وهل في إمكانه أن تدفع في اتجاه تكريس التوازن المطلوب. إنه سؤال ما قبل وما بعد الاستحقاقات القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى