الرأي

مستشفيات عليلة

ساهم تعاقب سلسلة من الأحداث والمواعد السياسية «الكبرى» في إبعادنا عن التفكير في الكثير من «لمم» المحن اليومية التي تجعل الحياة في هذا البلد صعبة للغاية، بل وتجعلها مستحيلة على البعض. وأكثر ما يمكن أن يجعلنا نقف على حجم التراجع الذي يعرفه مستوى الخدمات في هذا الوطن، هو اضطرارنا لارتياد المستشفيات.
أول ما يأخذ بلبك وأنت تجتاز عتبة المستشفى –خاصا أو حكوميا أو مدنيا أو عسكريا – هو عدد الحراس والعسس وعناصر الأمن الخدماتي الذين يتلقفونك واحدا تلو الآخر لسؤالك عما تريد فعله داخل المستشفى، مما يدفعك للتساؤل عما إذا كانت هناك أنشطة يمكن أن تقود مواطنا عاقلا مرتاحا هانئا لأن يفد إلى المستشفى إذا لم يكن قد ألم به أو بأحد أقاربه عارض صحي ما.
تلج المستشفى بعد وصلات ترحيب متنوعة من اللطف إلى التعالي إلى الابتزاز. وتفاجأ بغياب كل ما يجب توفره في مقام يفترض أنه ذو طبيعة علاجية. تنتبه إلى أن التجهيزات مهترئة بشكل خطير، وحتى الصالح منها تعلوه أطنان من الأوساخ التي يستحيل معها أن تخرج سالما من الفيروسات. تنتبه إلى أن سوء الخدمة قد بلغ مبلغه رغم فيالق الوزرات البيضاء المختالة أمامك، وأن الوساخة والعفن يضربان أطنابهما في كل المرافق، من البهو إلى غرفة التمريض إلى غرفة الفحص إلى غرفة العمليات، وخصوصا في أجنحة المرضى الراقدين. تنتبه إلى صوت الأنين الصادر عنهم وعن انشغال الممرضين بالحديث أو بالرد على هواتفهم أوالتذمر أو بتناول وجباتهم الصباحية داخل فترات العمل.
تنتبه إلى غياب الطبيب وإلى القسوة التي يتعامل بها المسؤولون مع أسئلة المرضى أو عائلاتهم ولترفعهم وتكبرهم وتجبرهم في ضرب سافر لإيتيقا التعامل في مهن يفترض أنها من أشرف وأنبل المهن لارتباطها بالأساس بـ«حياة» الإنسان.
والأخطر أنك تنتبه إلى كل تلك اللحي التي انسدلت على جدران المستشفيات، إذ يفاجئك ممرض بأن يأخذ على كاهله عبء إلصاق دعاء الدخول إلى المرحاض على واجهة المصعد– المعطل طبعا- ودعاء المؤمن المصاب على أبواب الغرف، وآيات الشفاء على خلفيات الأجهزة الطبية، في حين أنه يتلكأ في حقن جرعة المسكن للمريض الذي غادر قاعة العمليات وارتفع أنينه بزوال مفعول المخدر عنه.
تنتبه إلى عاملة التنظيف التي تأتي للدعاء للمريضة بالشفاء والمغفرة وإعطائها دروسا في الصبر والاحتساب ككل المسلمين المؤمنين بالله من أجل الحصول على إكرامية – قد لا تتجاوز أحيانا كوب «ياغورت» بدون سكر- لكنها لا تأتي لتنظف سريرها أو مرحاضها مع أنها تتلقى أجرها مقابل ذلك.
تنتبه إلى الأفواج تهرع بين الممرات حتى لا تفوت «جماعة الجمعة»، لكنها لا ترفع أصبعا لترد على نداء مريض.
كثير جدا ما تنتبه إليه في مستشفياتنا من مظاهر الإفلاس العلمي والأخلاقي الذي يعيشه قطاع الصحة، فتؤلمك كرامتك وتصرخ في الموت: «هيت لك»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى