شوف تشوف

الرأي

مغزى النبوات في التاريخ وتحقيق العدل العالمي

حين كان يوسف عليه السلام يودع صديقه الذي أفرج عنه من محبسه بقوله: اذكرني عند ربك، لم يكن يقصد بكلمة ربك أكثر من الملك. لو كان الذكر لرب السموات السبع ورب العرش الكريم لكفى الدعاء من باحة السجن. لا.. هنا الاستغاثة هي لمن يملك المال والنفوذ والسجن وإنفاذ الموت.
إبراهيم عليه السلام في مواجهته النمرود بالحجة وتبجح الآخر أن آتاه الله الملك فقال أنا من يمنح الحياة ويسحبها، أنا أحيي وأميت؟ بالطبع لم نعرف كيف ذهب النمرود إلى تأكيد حجته، وإن كان بعض المفسرين ذهب إلى أنه أحضر اثنين من المحكومين بالإعدام فقال للأول أنت حر وأمر بقطع رقبة الثاني، ثم قال هذا أحيته وهذا أمته.
هنا لو ذهب إبراهيم يحاججه إلى المساء لما نفع، فعمد إلى حجة عجيبة فلجته فبهت أي خرس بضربة واحدة لا يملك جوابا. قال له إن الله يحرك الكواكب ويطلق الشمس من المشرق، هات فأطلقها من المغرب؟ فبهت الذي كفر. ومنه أطلق على إبراهيم الذكي الأواب أنه أوتي الحجة القاطعة.
نرجع إلى قصة يوسف، فالرجل بعد أن سجن ظلما من وراء فضيحة جنسية تفاءل أن يحقق الحاكم في القصة ليكتشف ملابسات الحادثة، وعسى أن تتكشف الحقيقة فيخرج يوسف من السجن.
كل هذا لم يحدث لأن الأقدار أرادت له مخرجا مشرفا مطلوبا مدعوما أبيض الوجه نقي السريرة مع فضيحة نساء القصر بالطول والعرض من الطبقة المخملية المتعفنة المنحلة أخلاقيا.
الملك بدوره رأى مناما مفزعا متكررا عن بقرات نحيفات (عجاف) يأكلن ليس العشب كما جرت العادة، بل يفترسن بقرات ممتلئات (سمان).
ليست فقط بقرة واحدة بل سبع بقرات جائعات عجاف يقمن بهجوم (كانبيباليزم) ليفترسن بصورة مرعبة سبع بقرات محشوات لحما وشحما. يتكرر المنام ويخاف الملك من هذه الرؤيا فيقص حكاية المنام لمن حوله. الحاشية التي تتقن دور النفاق والكذب تقول له إنها لا تزيد عن أضغاث أحلام، ولكن الصدفة العجيبة أن أحد الرجلين الذي خرج من السجن ولعله كان من العائلة المالكة أو أقطاب المعارضة السياسية فاشتراه الملك وقربه بعد أن حبسه وأدبه، لا نعلم على وجه الدقة ولم يكن القرآن حريصا على هذه التفصيلات. كل ما جاء في القرآن الكريم أن يوسف بعد الفضيحة الجنسية مع زوجة (ربما ما يعادل رئيس الوزراء في أيامنا هذه) دفع إلى ظلمات السجن بكل بساطة لأنه لم يستجب لمغريات المرأة المليئة أنوثة ورغبة في معاشرة الشاب الوضيء.
من الملفت للنظر أيضا أن سورة يوسف تزدحم بكلمة ملك وليس فرعون (قال الملك إني أرى..) وهي تحتاج إلى تحقيق تاريخي مفصل، ويبدو أن يوسف جاء في فترة انقطع فيها حكم الفراعنة إلى قطعتين. الحقبة الأولى حكم فيها الفراعنة، ثم اقتحم مصر لون من الغزاة هم (الهكسوس) وحكموا مصر فترة من الزمن قد تكون أكثر من قرن، وفي هذه الفترة دخل يوسف مصر ورفعه الملك إلى منصب خطير جدا، بعد قراءة المستقبل المهدد للشعب الفرعوني، حين قال للملك إن ما ينتظر مصر وفق المنام أن هناك سبع سنوات من القحط والمجاعة في مصر، ولذا يجب تخزين الطعام لتلك السنوات العصيبات الممثلة في بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سمان. بالطبع كان تأويل المنام على هذه الطريقة من قراءة المستقبل جدا خطير، فلو لم يتحقق هذا فرأس يوسف أصبح في الميزان. ولكنها رؤية النبوة وهي تدخل حسب الفيزياء الحديثة بوابة المستحيل والذي يكسر قانون السببية.
يقول (ميشيو كاكو) في كتابه فيزياء المستحيل (سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 399 أبريل 2013 ـ ترجمة سعد الدين الخرفان) إن ثمة عشر استحالات في الفيزياء الحالية المعروفة، منها خمس كسرت أو قاربت هي استخدامات (مضاد المادة = Antimatter)، و(التليباثي (Telepathy) أي التخاطر، و(تحريك الأشياء من بعد = Psychokenesis) بواسطة موجات الدماغ، وهي أبحاث جديدة قد نصلها قريبا في التعامل مع الكمبيوتر مباشرة بدون (كي بورد وماوس)، ثم النقل الفوري البعيد للأشياء (Teleportation) وأخيرا القدرة على الاختفاء (Invisibility)، والسبب في التمكن منها ولو قريبا أنها لا تخرق في مجموعها قوانين الفيزياء المعروفة.
ومنها ثلاثة من الصنف الثاني أيضا لا تتعارض مع قوانين الفيزياء المعهودة ولكنها تتطلب وقتا لتحقيقها قد يأخذ قرونا وهي ما هو أسرع من الضوء؟ والدخول في أحشاء الكون من خلال الثقوب الدودية فنكسر المسافات الرهيبة، وأخيرا الدخول إلى عالم الأكوان الموازية.
ليصل في النهاية إلى أمرين تتكسر على عتبتها قوانين الفيزياء التي نعرفها فلا يمكن الوصول لها بأي سبيل وهي اثنان: الآلات دائمة الحركة، واستبصار المستقبل. وهو ما فعله يوسف وكثير من الأنبياء كالنبي دانييل مع الملك الآشوري نبوخذ نصر، وكان الاختبار أفظع من رؤيا يوسف حين قال له الملك أخبرني بما رأيت أنا قبل أن تفسر أنت المنام، فأخبره النبي دانيال بالرؤيا وتأويلها. ومن هذا القبيل أيضا المغامرة القرآنية في استبصار المستقبل بهزيمة الفرس خلال سنوات أمام جيوش بيزنطة. لنتصور لو أظهرت الأحداث كذب نبي الرحمة (ص) حين غامر بمستقبله الفكري كله حين قال في افتتاحية سورة الروم: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين. إنها مغامرة رهيبة بكل مصداقية النبوة، أليس كذلك؟
هذا بالضبط ما حصل مع يوسف عليه السلام والنبي دانيال وختاما محمد (ص) مع تتبعه للصراع الدائر في الشرق الأوسط بين أعتى إمبراطوريتين.
من قصة يوسف في القرآن نصل إلى تأسيس مفهوم جدا مهم عن معنى النبوات في التاريخ ولماذا بعث الأنبياء؟ بالتأكيد لم يبعثوا على شكل تيولوجي وصفي لمعرفة عدد الآلهة ومواقعهم، وإلا لما حوربوا هذه الحرب الشرسة. وفي القرآن تعبير مفزع عن مصير الأنبياء حين يقول: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وفي تعبير ثان: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا. وفي مكان ثالث: وقتلهم الأنبياء بغير حق. وفي قصة المسيح نرى ملامح مخيفة لمحاولة صلبه ويتدخل القرآن فينفي ذلك لهدف مهم، وهو الشعرة التي تفرق المسيحية عن الإسلام حين رفعوا البشر إلى مقام الألوهية.
باختصار للقارئ حتى يمسك حبل المسبحة، أقول إن أهداف الدين، أي دين أو مبدأ إصلاحي، هي ثلاثة: فردي واجتماعي وعالمي، فأما الفردي فهو تركيب البوصلة الأخلاقية عند الفرد، فالإنسان بدون سلم قيم في الحياة يتحول إلى وحش كاسر. لذا كانت تعليمات النبوة في كلمات أولها لا تقتل (تذكروا مجرمي داعش؟) وأما الوظيفة الاجتماعية فهي تحقيق مجتمع العدل (تأمل الآيتين كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، وكونوا قوامين بالقسط شهداء لله). ومنه يجب حذف كلمة دولة إسلامية من قاموس كلماتنا (تأملوا تنظيم الدولة الإسلامية المجرم الذي ولد في صيف عام 2014م) فما نريده هو مجتمع العدل وليس الخرافة الإسلامية، عفوا الخلافة الإسلامية، والدولة الإسلامية، فلم يمارس الظلم بأشد من ممارسته تحت مظلة الشعارات. ففي السودان علق محمود طه المفكر الإسلامي بتهمة الردة تحت تطبيق الشريعة الإسلامية أيام المجرم جعفر النميري الذي قتل في جزيرة أبا عشرة آلاف من الأنام.
أما المهمة العالمية فهي إرساء السلام بين الأنام وتحقيق التعارف بين الشعوب والأمم والقبائل. وفي هذا الصدد يجب تحرير مفهوم الجهاد بشقه المسلح أي استخدام القوة المسلحة، لأنها يجب أن تكون تحت تحالف دولي من أجل رفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان، في ظروف التطهير العرقي والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وأن يكون استخدام القوة المسلحة تحت مفهوم الحرب العادلة كآخر خيار، ومنه يجب فهم غزوات وسرايا نبي الرحمة (ص) أن هدفها الاستراتيجي كان السلام وليس الحرب بإرساء دولة مركزية تدخل العرب في مظلة الإسلام السياسي. وأما الاصطدام بالامبراطوريات المجاورة فيجب فهمه ضمن السياق التاريخي وعلاقات الدول يومها على أساس الحرب، فلم يكن ثمة قوانين دولية أو جمعية أمم متحدة أو ما شابه، ومازال العالم حتى يومنا الحالي لم يحل هذه المشكلة على نحو سليم وعادل، وهذا سوف يتحقق بأمرين، الأول إلغاء مجلس الأمن (المجلس الإجرامي الانتقائي الذي يعرقل ولادة العدل في العالم)، وتحويل جمعية الأمم إلى برلمان عالمي عنده قدرة وأدوات تنفيذ العدل، فيوقف سفك الدماء في رواندا وسوريا، ويلوي ذراع إسرائيل ويفشل مخططات بوتين في اجتياح الشرق الأوسط وهكذا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى