الرأي

ملف قضائي لرجل غامض

يأتي إلى مكتبه مبكرا ولا يغادره، إلا بعد أن تكون الإدارة ومؤسسات القطاع الخاص أفرغت أحشاءها من موظفيها، في شارع «إميل زولا» في الدار البيضاء، عند الطابق الرابع لعمارة في إحدى زواياه، استقر رجل غامض، لكنه أقرب إلى الألفة والبشاشة، يهتم بمتابعة الأوضاع السياسية والحزبية، ويركز على البعد المحلي في التجربة الديموقراطية، مثل خبير جرب الصعود من تحت إلى أعلى.
في الإحالة أنه يتحدث بلغة العارفين حول مسائل الشأن العام، انطلاقا من الواقع الذي يعيشه كمنتخب محلي لأكثر من ولاية. وإذا سألته لماذا لم يترشح إلى البرلمان يكون جوابه في الغالب أن العمل الجماعي أقرب إلى الاحتكاك بقضايا المواطنين. وعلى رأيه، فقد كان يحبذ المرور إجباريا عبر التمرس على الشأن العام في شؤون البلديات كمقدمة للولاية التشريعية.
كان مستشارا جماعيا في مدينة لا تبعد كثيرا عن الدار البيضاء الكبرى التي قيل عنها وقتذاك إنها في طريقها لأن تنتظم، على خلفية تقسيمها إلى ما لا يقل عن خمس عمالات. كان له رأي خاص يفيد بأن منح البلديات اختصاصات أوسع وموارد أكبر يعتبر الحل اللائق لاحتواء مشاكل المدينة، في حدتها ومظاهر تفاوتها، يقول، كلما طرحت إشكاليات العمل الجماعي، إن صرف موازنات الجماعات المحلية في التدبير وأداء أجور العاملين يستنزف إمكاناتها. ومن رأيه أن مد هذا القطاع بموارد وكفاءات من إدارات الوظيفة العامة، قد يحصر النزيف.
نتبادل الحديث كلما التقينا في مقاطع الذهاب والإياب. فهو لبق في أحاديثه لا يرفع صوته أبدا. يستشهد بتجارب محلية في بلدان أوروبية لاستخلاص أن تطوير الميثاق الجماعي من شأنه أن يكفل نموا مضطردا للتجربة الديموقراطية في البلاد. ويستدل على شغفه بالعمل الجماعي بأنه عند كل زيارة لدولة أوروبية، يحرص على تفقد بلدياتها ومحاورة مسؤوليها حول طبيعة التحديات التي تجابههم. معتبرا أن التقدم الحاصل في هذا المجال على المستوى الأوروبي، يجب أن يكون حافزا لتطوير نواقص الديموقراطية المحلية.
ذاك الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره، ويقيس وزنه في نهاية كل وجبة، درءا لزيادة الوزن، يتكلم في الصحة وحفظ السلامة الجسدية كأساس لمناعة أكبر. لذلك يكتفي بوجبة غذاء في اليوم الواحد، تاركا للأمعاء الخاوية أن تنوب عنه في التصدي لبواعث بيت الداء. كلما صادفته وأنا أهم بامتطاء المصعد، يردد لازمته: «مع كثرة التدخين، لا أقل من أن تصعد الدرج مشيا لإحراق زوائد الجسم».
أصغي لما يقوله ولا أعمل بنصيحته. وعندما ضبطته يوما وهو يرشف دخان سيجار كوبي، رد بالقول إن السيجار يساعد في هضم وجبة دسمة، لا أقل ولا أكثر. ثم إن الهدية لا ترد، في إشارة إلى تلقيه السيجار في ختام حفل غداء رسمي. وما ينفك في الإفصاح عن أنه لو كانت القوانين والإجراءات السارية تسمح في حينه بالدخول في منافسات عبر توريد السيجار وأنواع التبغ، لما تردد في الدخول على الخط. وعلى حد قوله، فقد سمع من أصدقاء كوبيين ما يشجع على فتح صفحة في مجال توريد السيجار.
لا تسمح الدردشات العابرة بالإلمام بمعالم ذاك الرجل الذي يدثره هدوء سرمدي، مثل لون واحد لا يتغير، فهو لا ينفعل ويبدو بلا ردود أفعال متسرعة. طرق باب مكتبي يوم قال إنه يحمل مشروعا للنشر، عبارة عن رصد التجارب النيابية التي عرفها المغرب. وأوضح أنه بصدد إصدار كتاب عن الحياة البرلمانية، يضم صور النواب مرفوقة بنبذة عن حياتهم وانتماءاتهم وأعمالهم.
لا تنقصه الأفكار والمبادرات، فقد استقطب شابا متحمسا، عهد إليه بإعداد مشروع إصدار جريدة أسبوعية أو شهرية، مختصة في شؤون الجماعات والحركات الإسلامية. أي حمى لسعته والمرحلة تبدو أبعد ما يكون عن إثارة إشكاليات بمستوى التعاطي والحركات الإسلامية.
المهم أنه حصل على ترخيص وشرع ذاك الشاب في إعداد تصور، بما ستكون له عليه الصحيفة. كان حديث عهد بعالم الصحافة، وساورته أفكار في أن هذا النوع من الصحافة سيكون عليه الإقبال. هكذا كان يفكر، بينما رأى المستشار الجماعي أن التجربة يمكن أن تحقق نوعا من الملاءمة بين الربح المادي والوازع المهني. لكن الجريدة بقيت مشروعا في الذهن، ولم تصدر قط.
نحن في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. يتردد المستشار على مكتبي، كلما رغب في الاستئناس بدردشة منفلتة، أسأله عن مشاريعه، فيجيب بأن كل شيء بوقته، وأن التسرع يقبر المشاريع مهما كانت ضروراتها وسندها. ثم نعرج على عالم الصحة الذي يروق له الحديث عنه. ويخبرني بأنه آل على نفسه ألا يتناول اللحوم الحمراء وأي نوع آخر منها. أستفسره إن كانت النصيحة جاءت بعد زيارة طبيب، فيرد بأنه طبيب نفسه يداويها، بغير التي كانت هي الداء.
عدت إلى الرباط العاصمة، تاركا شارع «إميل زولا» للروائي الذي حمل اسمه. لم يفسد متعة المزاوجة بين الأمس والتجربة، غير انفضاح قضية العميد مصطفى ثابت، الذي كان بدوره يتردد على شارع «إميل زولا»، يدلف إلى مسجد هناك لأداء الصلاة، ويخرج منه حاملا «وقاره» الذي كان يحتمي به لشيء لا يعرفه سواه. مرة سألت عن المستشار إياه، أجابني بائع الصحف في الركن المجاور لمكتبه: هل تتحدث عن فلان؟ قلت: نعم. بدت عليه علامات الاستغراب. وكيف يزعم أنه صحفي ولا يعرف شيئا عن قصة المستشار؟
أمعنت في السؤال، وأجابني: لم تتابع قضية «الطناجر الضاغطة»، كان يشير إلى تورط في عملية تهريب مخدرات إلى عاصمة أوروبية، عبر حشوها داخل كمية هائلة من الطناجر الموجهة إلى التصدير.
وأغلق المكتب في شارع «إميل زولا»، وسجلت الحكاية ضمن مغامرات مستشار غامض، أو هكذا على الأقل وضع ملف بالقضية التي أحيلت على العدالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى