شوف تشوف

الرأي

نبال ورماح في حرب حديثة

كل أنواع الفشل في السياسة والاقتصاد والمعاملات يمكن إخفاؤها، إلا الفشل في تدبير الإعلام، فإنه يلاحق التجارب بكرة وأصيلا. ولا أظن أن بلدا اخترع الأسوار لحجب المناظر البشعة، كما فعل مسؤولون محليون ومركزيون ابتدعوا فكرة إقامة الأسوار، للالتواء على أحياء الصفيح والبناء العشوائي التي تتراءى من نوافذ القطارات العابرة.
لم تكن تؤرقهم معاناة السكان المكتظين كعلب السردين، ولم يكن يعنيهم تعرض قيم اجتماعية إلى الاندحار، جراء إكراهات واقع سيئ بتداعيات أشد سوءا، بل كل ما في الأمر إخفاء الصورة البئيسة وراء الجدران التي باتت تستخدم لأشياء أخرى. كذلك هي سياسة الوهم بتجاوز المعضلات عبر التستر عليها. وكل توالد داخل الأسوار شأن لا يحضر في الأسبقيات.
غير أن الملك الراحل الحسن الثاني استبق بناء تلك الأسوار، وقال، في مؤتمر صحفي لدى سؤاله عن مستويات الفقر وتدني العيش في بلاده، إن أجهزة التقاط البث التلفزيوني تعتلي الأكواخ والبيوت الهامشية، قبل أن تغمر الصحون أسطح المنازل في المدن والأرياف على حد سواء. وربما أن الإشارة كانت تذهب إلى أبعد من وجود أجهزة تلفزيونات في المساكن، يوم كان ذلك من مظاهر القناعة بترف الشاشة الصغيرة.
وإنه لترف ساذج، لأن الناس لم يكونوا يدفعون ضرائب ألصقت عسفا بفواتير الماء والكهرباء، ولا ألذ من أكلة لا تتطلب إشعال نار الموقد. ثم حل زمن صاروا يدفعون فيه لرؤية ما لا يسر الناظرين. وصدق الفنان الساخر أحمد السنوسي (بزيز) عندما قال إن أي متهم يستعصي إقراره بإفادات عن تورطه في أي قضية يعاقب عليها القانون، لن يحتاج لأكثر من سجنه أمام التلفزيون لبضع ساعات، ولابد أن ينطق لسانه اعترافا بما فعل وما لم يفعل.
لا يماثل اللغط الذي صاحب نقاشات السياسيين والمثقفين والفنانين حول سبل تطبيع الأداء الإعلامي تلفزيونيا وإذاعيا، ليرى الناس وجوههم على الشاشة التي تنوب في تقديم تلفزيون مرآة الواقع، سوى الرغبة في أن يكون للناس صوتهم الحقيقي. حدث مرة أن الجدال احتدم في البرلمان حول قضية محورية، كان التلفزيون ينقل وقائعها مباشرة. وفطن أحد النواب إلى مغادرة وزير الأنباء القاعة خلسة، فصاح قائلا: «انظروا إن الوزير في طريقه لأن يقطع البث التلفزيوني»، ولم تشفع صيحته التي كانت في واد في ثني الوزير عن إقفال جهاز البث.
وقتها كان اكتشاف الشاشة الصغيرة ثورة بمعنى الكلمة، وإذا أذاع خبر فالصدق ما قالته حذامى. أما إذا أغفل عن ذكر حدث، فكأنه لم يقع. ولا يزال النقاش حول أحقية الأحزاب في مخاطبة الرأي العام من خلال التلفزيون قائما، بالرغم من أنه في طبعته الحالية يبدو أكثر من متجاوز، أمام سيطرة وسائط الاتصال الاجتماعي التي تحولت إلى رقابة حقيقية تصدح بما كان يخفيه الإعلام الرسمي.
سيدفع الإحساس بفشل الخطاب السياسي عبر نافذة الإعلام الرسمي إلى التفكير في مقاربات بديلة، سيكون محورها الأساسي أن لا خير يمكن انتظاره ممن شب على شيء وشاب عليه. وبالقدر الذي احتفظت فيه ذاكرة الإذاعة والتلفزيون بإعلاميين وفنانين ومبدعين، ظلوا ينازعون من أجل تغيير الصورة التي علقت بذاك المشهد، كان هناك من يغالي في تصوير الوضع بأنه يفرض استمرار القبضة الحديدية، بمبرر أن هناك مغرضين وشيوعيين ومتمردين يتحينون الفرصة لبث أفكار مناوئة.
سذاجة سطحية ليس بعدها إلا العدم. وقبل أن تظهر «ميدي آن» إلى الوجود، نعتها محافظون متشددون في السلطة التنفيذية ومحيط أهل القرار، بأنها ستفتح أبواب المغرب على المجهول، وأن إحداث مناطق حرة للتجارة ليس مثل استحداث قنوات إعلامية. لكن الوزير الأول الأسبق أحمد عصمان تحلى بالشجاعة، وقال للملك الراحل الحسن الثاني، وهما يتجولان على متن السيارة، إنه يعرف الكثير من إعلاميي المؤسسة الجديدة الناشئة، وإنهم تربوا وترعرعوا في أحضان المدرسة المغربية.
كان احتكار الدولة للفضاء السمعي البصري نافذا، وتم الاهتداء بتجربة سابقة لإذاعة «صوت أمريكا» التي كانت تبث من طنجة للبحث عن إطار قانوني يجنب الدولة السقوط في إشكاليات إجرائية. والأهم أن تخطو البلاد مبادرة أولى، ثم تلحقها خطوات.
كل الإعلام في سلة واحدة، أكان مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا. وستكون لمبادرة طبع وتوزيع صحيفة «الشرق الأوسط» في المغرب ردود فعل، ليس أقلها أن الصحافة المغربية ناهضت القرار واحتجبت عن الصدور ليوم واحد، احتجاجا على غياب شروط المنافسة، واستنزاف العملة الصعبة، وما إلى ذلك من طروحات المرحلة، إلا أن قرار الانفتاح فرض نفسه، وفي النهاية فإن أقصى ما تطمح إليه أي صحيفة دولية هو أن تكون الثانية أو الثالثة من بين الصحافة المحلية في بلد الاستضافة.
ثم جاءت خطوة عملاقة في حينه، لدى إحداث قناة «دوزيم» التي فتحت عيون المغاربة على الظلال المغيبة في الإعلام الرسمي. وقد سبقت تجارب دول عربية في إحداث الفضائيات، قبل أن تتحول إلى «تلفزيون هواة»، وأستسمح الكفاءات التقنية عن هذا الوصف. المشكل أن الإحساس بالفشل كان وراء التجريب. وإنه لمن الصعوبة بمكان منافسة الحروب الحديثة بتوجيه الرماح والنبال. وما علينا إلا أن نأمل في أن هذا الشعور يولد الاتجاه نحو مبادرات تلافي الفشل مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى