الرأي

نواب أقل بفعالية أكبر

رأيت المعطي بوعبيد شاردا يحاول إخفاء قلقه وراء ابتسامات ساخرة. كانت ليلة إعلان نتائج تشريعيات خريف العام 1984 فرصته للتأمل. لم يشرك أحدا في نظرته للأمور واكتفى بمجاراة اللحظة.
كأنما حدسه رفعه إلى مقام آخر، الجسد هنا والعقل هناك. وثمة هاجس خفي يضغط لتحويل الفرحة إلى حزن دفين، تلمع عيناه ويخمد بريقهما. لكن الكاهل الذي يحمل أعباء السياسة ليس من طبيعته أن يكل أو يمل، ولكل اختيار فاتورته التي يتعين تسديدها عاجلا أم آجلا.
بين الفينة والأخرى كان يسأل عمن يكون مترشحون فازوا تحت يافطة حزبه «الاتحاد الدستوري». فيما كان يعرف آخرين جيدا من ذوي الحظوظ العاثرة، أولئك الذين كان يواسيهم بأن الانتخابات ليست نهاية الكون.
فرضية سليمة لاشك في ذلك، فالمعارك الانتخابية مثل أي منافسات رياضية، ولا يخرقها سوى انتفاء المعايير، كأن تحدث أطوار ملاكمة سياسية بين وزنين غير متقابلين، أو يتحيز الحكم لفائدة ملاكم دون الآخر. ومثل أوزان الريشة والأخرى الثقيلة، يستند مترشحون إلى المال وآخرون إلى السلطة فيسقط التوازن وتنتفي مفاجآت السباق واللحاق.
طوال تلك الليلة التي امتدت إلى ما بعد الفجر، لم يسأل بوعبيد عما حدث في الدائرة التي ترشح بها في الحي الحسني بالدار البيضاء، إما لإدراكه أن الرسالة وضعت في البريد وستصل آمنة إلى ما تقصده. وإما لأنه كان زاهدا في ولاية نيابية تأتي بعد أن دانت إليه أغصان مناصب رفيعة وزيرا أول ووزيرا في العدل ووزير دولة. فقد كان يشيح ببصره بعيدا نحو تسجيل رقم قياسي في سجل آخر، لا يقل اطمئنانا عن العودة إلى ردهات المحاكم، نقيبا ذا جدارة عالية.
انزوى لحظة إلى مكتبه، لعله كان يريد أن يكون وحيدا، على غير ما جبل عليه من نقاش. وصارحني قولا صادما مفاده أنه كان يرغب في حيازة عدد أقل من الدوائر بمنتخبين أكثر كفاءة، فالعبرة لا تكون بالأعداد وإنما بالكفاءات والفعالية والأفكار والالتزام. ومنذ كانت الانتخابات وهي تخضع لشروط غير مرئية، لذلك ظهرت مطالب النزاهة والحياد والشفافية لحصر الأضرار التي تلحق باندفاع الاختيار في مجتمعات تعاني من استشراء الأمية والعوز واستغلال حاجات الناس.
ليس صحيا إذن أن حيازة الصدارة أو الغالبية، بكيفية أو بأخرى، تعكس ميول الشارع ودفات الصراع، فقد استطاعت كتل المعارضة خلال فترات أن تجعل الكفة تميل لصالحها بعدد أقل من النواب، فيما أن معظم المنتسبين إلى الغالبيات السابقة يكتفون برفع الأيادي للتصويت، ومنهم من لم يفتح فمه من بداية الولاية إلى نهايتها. وفيهم أيضا من يكون صمته أفضل من كلامه.
من المفارقات أن أعداد نواب المعارضة منذ بداية المسلسلات الانتخابية كانت تتراوح بين أقل من العشرين إلى الخمسين مقعدا في أحسن الحالات، بينما ارتفعت الأعداد في الطرف الآخر إلى أزيد من المائة والأربعين. وحين اختارت البلاد معاودة تصحيح التوازنات، كان عليها أن تبحث عن تأمين الغالبية بين ما لا يقل عن سبعة أحزاب ثم خمسة وهكذا دواليك.
لكن الالتزام السياسي يظل واحدا في هذا الموقع أو ذاك، واضطر زعيم «الاتحاد الدستوري» المعطي بوعبيد في غضون ذلك للدفاع عن تلك الحصيلة، ورد على الذين وصفوا حزبه بظاهرة «لكوكوت مينوت» أن الطنجرة الضاغطة العصرية تلائم المطابخ العصرية التي تخلت عن (الكانون).
هل كان في وسعه أن يكون غير ما ساقته إليه الأحداث؟ في أي حال فإن فوزه في دائرة الحي الحسني لا يشبه انتصاره الباهر على منافسه التهامي الوزاني في استحقاقات العام 1963 التي أرخت لأول مواجهة بين حزبي الاتحاد الوطني والاستقلال وخصومهما المدثرين بعباءة «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية».
وقتها صرح زعيم الاتحاد الوطني المهدي بن بركة بأن القوى الوطنية تعتبر جبهة «الفديك» مجرد أداة لا تعنيها، بقدر ما تهتم بالسياسة التي أنتجتها. وعلى رغم موقف الاتحاد من دستور العام 1962، خلص بن بركة إلى أن المشكل أن الوثيقة الدستورية تحظر نظام الحزب الوحيد، «بينما الإدارة صنعت لنفسها حزبا يريد أن يكون وحيدا ويسيطر على كافة جوانب الحياة السياسية».
سيستعمل الاتحاد الدستوري أداة سياسية في محاولته إطاحة حكومة المرحلة، وتحديدا من خلال استخراج بند ملتمس الرقابة الذي يطرح إمكان محاججة السلطة التنفيذية في مواصلة مهامها. وشكل اللجوء إلى طلب حجب الثقة نوعا من الاعتراف السياسي والمعنوي بالانضباط لأوفاق الوثيقة الدستورية، على رغم معارضة الاتحاد الوطني لما كان يوصف بـ«الدستور الممنوح»، فقد كان الصراع سياسيا بامتياز، وإن انبرت أطراف من خارج دائرة اللعبة إلى استخدام وسائل أخرى.
في آخر لقاء جمعني إلى الراحل المعطي بوعبيد في الدار البيضاء، وجدته أكثر حزنا يجادل في ترسيم علامات المخارج التي تسمح بإنعاش توازنات الحياة الديمقراطية. بدا عليه نوع من الإرهاق السياسي، وكان يفكر في كيفية استيعاب الدروس، على قاعدة ممارسة نقد ذاتي مشترك، قال ضمن ما تسعفني به الذاكرة: «تعلمنا أشياء كثيرة، بعضها صحيح وثابت وبعضها خاطئ تشوبه الأنانية». ودعا إلى نسيان ما يتعلمه المرء خطأ والبحث عما يمكن أن يتعلمه صوابا. ثم مضى إلى حال سبيله تاركا وراءه تجارب سياسية تنفع في تلمس طريق آخر لا يحفه أي تعصب أو استهتار أو استعداء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى