الرئيسية

هذه مضامين تسجيلات نادرة توثق لعمليات التهجير نحو المناجم

«كان يدخل يده في فم الشبان الذين تم إحضارهم بالقوة لاختبار قدرتهم على العمل في المناجم، يتفحص أسنانهم وصدورهم وأكتافهم وعضلاتهم، ويحشرهم في شاحنات تنقلهم إلى سفن تنتظر في ميناء أكادير لترحيلهم إلى مناجم فرنسا، ليعيشوا حياة تحت الأرض.. هذه قصة موغا الذي كان اسمه وحده كافيا لفرض حظر التجول».
أطلقوا عليه اسم «موغا» والحقيقة أنه كان اسما مرعبا. في التاريخ المغربي، لم يكن «موغا» مرتبطا إلا بالترحيل إلى فرنسا بالإكراه وبالمجهول أيضا.
ما الذي جعل شخصا مثل فيليكس مورا، وهذا اسمه الحقيقي، يحظى بكل هذا الصيت في الجنوب المغربي، حتى أن اسمه كان مصدر خوف جماعي لأجيال من المغاربة، الذين عاصروا وجود الحماية الفرنسية في المغرب.
قررنا أن ننقب وراء هذا الاسم الغامض الذي تداولته الذاكرة الجماعية بكثرة بعد الاستقلال، وبعد وفاة الجيل الأول من عمال المناجم المغاربة بالخارج. وجدنا أن «موغا» هو اسم شعبي فقط، وأن صاحب الاسم كان نافذا بقوة في الجيش الفرنسي، وأنه كان يشغل مشرفا على مكتب عسكري قوي في منطقة كلميم، قبل أن تصبح منطقة سوس كلها خاضعة له ولرجاله، الذين كانوا يختارون العمال بطرق لا إنسانية في غاية الإهانة.
حصلت «الأخبار» على تسجيلات صوتية نادرة، كانت معدة لإنجاز أبحاث تاريخية عن تهجير المغاربة بالقوة للعمل في المناجم الفرنسية منذ ثلاثينات القرن الماضي. تسجيلات عمرها أكثر من 25 سنة، تروي قصة شيوخ يحكون تجربتهم مع «موغا» عندما كانوا في سن الشباب، ويروي بعضهم بكثير من الأسى كيف أن المناجم سقطت فوق رؤوسهم. والمثير أن بعضهم قدموا مواصفات دقيقة لشخصية «موغا»، لم تفارق ذاكرتهم رغم مرور كل تلك السنوات.
المثير في القصة كلها هو «الصفقة» التي تمت بين الإدارة العسكرية الفرنسية بالمغرب وبين مكتب المناجم الفرنسي. لماذا اختير موغا دون غيره ليكون مشرفا على الصفقة؟ وهل استفاد من تعويضات مقابل الصرامة التي حشر بها المغاربة الشبان في شاحنات قادتهم نحو سفن حملتهم إلى المجهول؟

هذه معايير اختيار العمال بعد اختبارات بدنية مهينة للمغاربة

موغا المرعب. لا أثر له الآن إلا في الذكريات والشهادات الشفهية التي توثق تاريخ الجنوب المغربي، خلال أربعينات وخمسينات القرن الماضي. بعض الأساتذة الجامعيين الذين أشرفوا على بحوث تاريخية تهم الجنوب المغربي، وجهوا طلبتهم إلى البحث في الرواية الشفهية، خصوصا في القرى الواقعة في الجنوب الشرقي لمدينة أكادير، لاستقاء ملامح «موغا».. أشهر مرحلي اليد العاملة المغربية إلى الخارج في فترة الاستعمار.
«الأخبار» حصلت على بعض تلك الشهادات الشفهية التي استعملت في بحوث جامعية، وحاولنا من خلالها رسم ملامح «موغا».
لنبدأ بشهادة شيخ اسمه محمد من منطقة لخصاص. الشهادة تعود إلى سنة 1989، يقول فيها: «هربت من القرية بسبب موغا. أخبرونا أنه كان في منطقة قريبة منا قبل أيام ونصحني والدي بالفرار حتى لا يجدني عندما يصل إلى قريتنا. وبالفعل هربت ونجوت في تلك المرة، لأنه جاء في أحد الصباحات إلى القرية مباشرة بعد رحيلي عنها. لكن في المرة الثانية لم أكن محظوظا. فقد جاء بشاحنة وسيارة عسكرية دون سابق إنذار. كنت منهمكا في بعض الأعمال الفلاحية للعائلة، وأستعد لإدخال بعض الأغنام إلى ملكية العائلة، إلى أن لمحت فوضى كبيرة وسمعت صراخ بعض الشبان من أبناء القرية كانوا كلهم أصدقائي. رميت العصا التي كنت أحملها أرضا وركضت في اتجاه أصحاب تلك الأصوات، لأتبين منهم ما وقع، فوجدت أنهم كانوا يحذرونني حتى لا أقترب، لكن الوقت كان قد فات، فقد لمحني المقدم الذي كان من المتعاونين مع فرنسا. وكان يشير إلي بيده ويعطي اسمي لأحد الجنود الفرنسيين ودونه فوق ورقة كان يحملها معه. جاؤوا بي وأوقفوني في صف طويل مع أبناء القرية، وكان من بينهم أبناء أعمامي وأخوالي أيضا، وبقينا ننتظر تحت أشعة الشمس إلى أن نصبت خيمة بسرعة ووضعت داخلها مكاتب وكراسي. بعد ذلك توقفت سيارة عسكرية لم يكن لها سقف، وفتح أحد الجنود الباب لينزل منها شخص ما إن وضع حذاءه الطويل على الأرض حتى تسمّر جميع الجنود وأعطوه التحية العسكرية. كانت عيناه ضيقتين ولم ينظر في اتجاهنا إلا بعد أن جلس في كرسي داخل الخيمة. وبدأت عملية الاختيار. عندما حان دوري، كان هذا العسكري ينظر إليّ بشكل مخيف وكان الطبيب يخاطبه بـ«مسيو فيليكس» وأدركت في ما بعد أنه كان «موغا». لا أدري هل كنت محظوظا أم غير محظوظ، لأنهم لم يختاروني، فقد كنت أثناء طفولتي قد تعرضت لكسر خطير بعد سقوطي من فوق حصان هائج، وكان أثر الكسر باديا على كتفي حتى بعد أن شفيت منه. عندما انتهى الطبيب مني نظر إلى «موغا» وأومأ برأسه رافضا، فدفعني الجندي بمؤخرة بندقيته إلى خارج الخيمة، وشعرت وقتها بفرح كبير. لكن بعد عودة الذين تم اختيارهم للعمل في فرنسا، رأيت أن حالتهم المادية تحسنت وأنهم عادوا بالمال الكافي الذي اشتروا به الأراضي في القرية، وشعرت أنه لو رحلت معهم إلى فرنسا لتحسنت وضعية عائلتي أيضا. بعد ذلك التاريخ، كان الشبان يتزاحمون كلما كانت هناك لجنة لاختيار الذين سيعملون في فرنسا، وكان الكل يتمنون أن يتم اختيارهم، لكن المعايير كانت دقيقة».
هذه الشهادة فيها جزء يسير من ملامح فيليكس موغا، والغريب أن المغاربة وقتها كانوا يجهلون اسمه كاملا، وبقي «موغا» فقط في الأذهان، يرعب كل من سمعه حتى بعد حصول المغرب على الاستقلال.

كواليس الصفقة التي تمت بين «موغا» ومناجم فرنسا
ما السر وراء غموض «موغا» وقوته؟ بدا من خلال ما روي عنه وكأنه كان مسنودا من طرف الحماية الفرنسية حتى يشرف على صفقة استقدام لليد العاملة المغربية إلى فرنسا. المثير في قصة فيليكس موغا والذي لم يكن يعرفه الناس إلا بـ«موغا» أنه كان في بداية عمله بالمغرب ضابطا في الجيش الفرنسي، أوكلت إليه مهمة عسكرية تتمثل في ترؤسه لمكتب الشؤون الأهلية بكلميم.
هذه المهمة وحدها كانت تعني أنه يعرف كل كبيرة وصغيرة بخصوص الأهالي في الجنوب، وخصوصا في المنطقة التي كانت الفرقة العسكرية التي ينتمي إليها مشرفة عليها. هذا لا يعني أنه لم يكن لديه نفوذ في المناطق الأخرى، لأن «موغا»، بعد أن فاز بصفقة الوساطة بين مكتبه ومكتب مناجم فرنسا، أصبح يتجول بسيارة عسكرية في الجنوب كله، ليشرف شخصيا على إرسال أفواج من الشبان المغاربة إلى فرنسا.
باستثناء بعض المصادر الفرنسية العسكرية خصوصا، فإن الأرشيف المغربي لا يتوفر على معطيات أو شهادات من قلب تلك الفترة، باستثناء بعض مجهودات أساتذة جامعيين، سيما في الجنوب، متخصصين في التاريخ، عمدوا إلى جمع بعض الروايات الشفهية التي تعود أغلبها إلى فترة التسعينات، بعد أن أصبح الذين أرسلهم موغا إلى فرنسا شيوخا.
هذه الروايات، التي حصلت «الأخبار» على بعضها مكتوبة وأخرى صوتية تقول إن موغا كان هو المشرف الوحيد على عملية الاختيار، وإنه وحده من كان يقرر ما إن كان الشاب يصلح للعمل في المناجم، أم لا.
تقول إحدى الشهادات والتي سجلت باسم «الحسين بن العربي»: «الكل كان يخاف من «موغا». كان يكفي أن نسمع اسمه ونحن صغار لكي نهرب نحو منازلنا. كان الشيوخ يقولون لنا إن الذين يختارهم موغا لا يعودون أبدا. يشحنهم في سفينة ضخمة ويقطع بهم البحر نحو المجهول. ونحن كنا نخاف من أن يفعل بنا موغا نفس الأمر. لقد رأيته مرة وأنا لا أزال طفلا. كان نظيفا جدا، ويرتدي بذلة عسكرية ويدخن السجائر بكثرة. كان يجر الشبان من أذنهم، ويتفحص أيديهم ليختبر مدى خشونتها، ثم يعرضهم على طبيب كان يرافقه. إذا أشار بيده في اتجاه الشاحنة فهذا يعني أن الشاب قد تم اختياره ليسافر، وإذا أشاح بوجهه عنه أو دفعه بيده فهذا يعني أنه ليس صالحا ليركب الشاحنة. عندما كان موغا يصل إلى قريتنا، وأذكر أنه جاء إليها مرتين أو ثلاث مرات فقط، فقد كان يسيطر الصمت على كل شيء. لا أحد كان يقوى على الكلام. الكل كانوا صامتين أثناء اختيار موغا للعمال، بما في ذلك العسكريون. لم يكونوا يستطيعون التدخين أمامه. في المرة الأخيرة التي رأيت فيها موغا، لا أذكر متى بالضبط، لكني كنت ما زلت طفلا، وقد خلق حالة هلع كبيرة في السوق الأسبوعي. توقفت الشاحنات بسرعة، وجاء المقدم الذي كان يترجم كلامنا لموغا، وقال إن السيد موغا يعرض عليكم العمل في فرنسا. من يريد الذهاب؟ فأظهر بعض الشبان رغبتهم في العمل، لكنه لم يختر كل الراغبين وأرجع بعضهم من الشاحنة، لأنه كان يعتقد ربما أن بنيتهم الهزيلة لا تصلح للعمل. وعندما كان عدد المرشحين غير كاف، تحدث موغا من جديد مع المقدم وصاح الأخير فينا بأنه يتعين علينا الاصطفاف في خط طويل ومنظم، وبدأ الجنود يتجولون بين الناس ويختارون الشبان أقوياء البنية. أنا كنت صغيرا وبالتالي لم أكن مهددا بالترحيل. وهكذا خضع الذين تم اختيارهم للاختبار رغما عنهم، وتم ترحيلهم».
هذه الشهادة تعكس مدى صرامة الصفقة التي تحدثت عنها المصادر الفرنسية. صفقة بين مكتب مناجم فرنسا وبين الجهاز العسكري، الذي يبدو واضحا أنه اعتمد على موغا في عملية الاختيار في الجنوب كله. وحسب نفس المؤشرات الفرنسية، فإن العمالة المغربية بفرنسا في تلك الفترة اختيرت كلها من جنوب المغرب، وليس من مكان آخر.
الصفقة التي بدا أنها كانت سرية في ذلك الوقت، رعتها الدولة وليس رجال الأعمال الفرنسيين كما كانت تقول بعض التوقعات، والدليل أن الجهاز العسكري الفرنسي في الجنوب كان حاضرا بقوة في عملية الاختيار. ما أكسب «موغا» قوة كبيرة، وصيتا واسعا، هو انفراده بعملية الإشراف على الاختيار، لأن المؤشرات التاريخية في هذا الباب لم تركز على أسماء أخرى بقدر ما ذكرت «موغا».

التاريخ السري لصفقات رحّلت البشر بحرا إلى مناجم الشمال الفرنسي
قبل مجيء «موغا» كانت أولى الصفقات التي رحل بموجبها المغاربة إلى فرنسا، قد تمت سنة 1939 بالضبط. ولا توجد أي مصادر تاريخية الآن تؤكد هوية الشخص الذي كان واقفا خلف إبرام تلك الصفقات. لكن المرجح أن المستفيد الأكبر منها هو إدارة المناجم الفرنسية، بتنسيق مع الجهاز العسكري الفرنسي. وقد تم اختيار العمال بعناية ممن كانت بنيتهم الجسمانية مناسبة للأشغال الشاقة بالمناجم. هذه التجربة كللت بالنجاح، رغم المدة القصيرة التي قضاها أولئك العمال المغاربة هناك. تقول بعض الإشارات إنهم قضوا سنة أو سنة ونصف السنة، ثم تمت إعادتهم إلى المغرب بعد أن صرفت لهم أجورا عن خدمة تلك المدة، أي أنهم لم يكونوا يحصلون على أجور شهرية وكان يتم استقبالهم في أماكن ضيقة قضوا داخلها مدة العمل كلها، دون أن يستفيدوا من يوم عطلة واحد.
لم تعاود فرنسا الكرة مرة أخرى، ولم تعاود طلب اليد العاملة المغربية إلا سنة 1948. وحسب المتخصصين في التاريخ، فإن هذه الصفقة كان قد أطلق عليها اسم صفقة «بوردو». بعدها جاءت تعاقدات أخرى اشتهر فيها اسم «موغا» واستمرت إلى نهاية الخمسينات. والحقيقة أن اسم موغا كان قد بدأ في الانتشار قبل تلك الفترة بقليل، نظرا لسمعته العسكرية في منطقة الجنوب.
استمرت التعاقدات إلى نهاية الستينات، أي بعد حصول المغرب على الاستقلال لكنها أخذت طابعا آخر، وأصبحت شروط العمل أكثر احتراما لإنسانية المغاربة، واستمرت إلى أن تم إغلاق تلك المناجم نهائيا، بداية السبعينات.
ما الذي جعل تلك الصفقات وقتها تعامل المغاربة بتلك الطريقة، سيما وأن الصفقات لم توضح علاقتها بالدولة المغربية في تلك الفترة. صحيح أن فرنسا كانت تعتبر نفسها دولة حامية للمغرب، لكن تلك الصفقات لم تكن تتوفر على أي إشارة إلى وجود ممثل عن الطرف المغربي في تلك الصفقات. إذ يبدو أن الطرف المغربي الوحيد في الصفقات هم العمال الذين تم شحنهم إلى هناك. دائما، في إطار الشهادات الشفهية التي توفرت لنا، وهي واحدة من الشهادات المسجلة على الأشرطة المغناطيسية، نورد شهادة لأحد الذين تم اختيارهم على يد «موغا» ويروي فيها بعد خمسين سنة على الرحلة، بعض التفاصيل التي بقيت عالقة بذهنه: «كنت فزعا جدا عندما أخذ موغا يدي وتفحصها. لم يكن ينظر إليّ تفقد راحة يدي وعندما وجد أنها خشنة جدا بحكم أعمال الفلاحة التي أزاولها، دفعني في اتجاه الشاحنة وكدت أن أسقط، وتلقفني جندي فرنسي وحشرني في الشاحنة. لم يكن هناك وقت لأودع عائلتي، لكن بعض الناس أخبروهم أنه تم اختياري للسفر إلى فرنسا للعمل، وبشروهم أنني سأعود بكثير من المال لانتشالهم من الفقر، لذلك أقام والدي رحمه الله مأدبة عشاء ذلك اليوم لأهل القرية، رغم أن مصيري كان مجهولا. أخذوني مع آخرين في تلك الشاحنة إلى قرى أخرى وكان عددنا يتزايد إلى أن وصلنا إلى أكادير. وزعوا علينا بعض الأغطية وصعدنا إلى السفينة، وأمرونا بأن ندخل إلى الغرف الصغيرة وننام لأن الوقت كان متأخرا. كان هناك مغربي أكثر قسوة علينا من الفرنسيين وكان يتولى عملية الترجمة. قبل الصعود أجبرونا على بصم ورقة بمثابة عقد عمل، وطلبوا منا أن نحملها معنا باستمرار. وصلنا إلى فرنسا بحرا، وفور نزولنا من السفن بعد يومين من السفر أركبونا في شاحنات نظيفة وأطعمونا، وفرضوا علينا حماما جماعيا، ووزعوا علينا بذل العمل، وتوجهنا في اليوم نفسه إلى الأماكن التي يريدون حفرها. كان هناك عامل مغربي يبدو أنه صار متمرسا معهم، وهو الذي تولى أمر توجيهنا وتعليمنا العمل. بسرعة تعلمنا بعض الكلمات الفرنسية. كان العمل قاسيا جدا، بشكل لا يُتصور. رأيت بعض العمال يموتون اختناقا، ومرة بقي عامل منا في وقت كان فيه رب العمل يريد تفجير الديناميت لتوسيع نفق، فمات تحت الأنقاض. كانوا يأمروننا بالاستمرار في العمل حتى لو مات أعز أصدقائنا. بعد سنتين منحونا عطلة لثلاثة أشهر، أعادونا خلالها إلى المغرب بعد أن صرفوا لنا أجورنا. عندما وصلت إلى القرية أقاموا حفل استقبال لي، وبعد شهرين من الراحة جاء شخص مكلف بجمعنا بالشاحنة، وأخبرني أنه يتعين علي تجديد العقد حتى أسافر مرة أخرى، وكذلك كان».

من كان يقف وراء أسطورة «موغا» ؟
يبدو أن المغاربة أنفسهم كانوا واقفين أمام هذه الأسطورة، لأن «موغا» في فرنسا لم يكن يحظى بكل الأهمية التي رصدت له في المغرب. هل صنعها بنفسه، أم أن السلطات هنا حاولت أن تصنعها له؟ الجواب سيكون شافيا إلى حد ما في شهادة أحد المتعاونين مع السلطات الفرنسية، وهو عالم فرنسي كان قد زار المغرب في إطار رحلات استكشافية مدفوعة التكلفة، كانت قد أشرفت عليها وزارة التجهيز الفرنسية خلال سنة 1943، وكان الغرض منها القيام بأبحاث في مجال المعادن، والبحث عن موارد أخرى للمناجم في المستعمرات الفرنسية. يقول هذا الطبيب في دراسته، إنه صادف وجود «موغا» في إحدى القرى بالجنوب المغربي، غير بعيد من منطقة تدعى «بويزكارن» وأصيب بالدهشة أمام نفوذ موغا. يقول: «قدمه إلي العسكري الذي كان مكلفا بتوفير الحماية للوفد العلمي الذي كنت أحد أفراده. في أكادير تناولنا وجبة الإفطار، واستغرقت رحلتنا ساعات طويلة لنصل وقت العصر إلى القرية. هناك قرر الملحق العسكري المرافق لنا التوقف، حتى يرى إن كان ممكنا توفير مكان لنا لنستقر فيه حتى نقوم بأبحاث في المنطقة. في المساء نظم حفلة على شرفنا، وكان من بين الحاضرين «فيليكس موغا». أخبرني شخصيا أنه مهتم جدا بمجال المناجم، خصوصا في فرنسا، وقال لي ألا أضيع وقتي في البحث عن مناجم مغربية للتنقيب عن المعادن، وقال لنا ونحن على طاولة العشاء، إن الدولة الفرنسية يجب عليها أن تهتم بما لديها من مناجم أولا، وأظن أنه كان يقصد مناجم الشمال والشرق بفرنسا. قال لنا إن الطاقة الحقيقية الموجودة في المغرب هي اليد العاملة. أحسست أنه يعلم أمورا كثيرة لا يريد الإفصاح عنها، لكنه لمح إلى أن أفضل ما يمكن القيام به في مجال استغلال الطاقة والمعادن، هو أن نستغل اليد العاملة الأجنبية في التنقيب في مناجم فرنسا أولا، بدل إضاعة الوقت في البحث عن إمكانية وجود مناجم تابعة لفرنسا خارجها. أعتقد أنه شخص ذكي جدا، وربما كونت انطباعا سلبيا عنه لأنه بدا غير مرحب بالحديث إلينا كثيرا، ربما لأنه عسكري، والعسكريون صارمون للغاية».
هذا الاعتقاد بأن فرنسا تضيع وقتها بالبحث عن مناجم بالمغرب، ربما يكون خاطئا، خصوصا وأن فرنسا استغلت مناجم مغربية بالفعل، وسيطرت عليها في مناطق أخرى وليس في الجنوب وحده، حتى بعد حصول المغرب على الاستقلال.
المثير أن «موغا» لم يكن يفصح عن مضمون الصفقة التي أوكلت إليه الإشراف على نقل المغاربة للعمل في المناجم. لكن الأكيد أنه كان يمثل الإدارة العسكرية، ومن الحمق أن نظن أن الأمر كان يتعلق بصفقة شخصية. ما الذي كان يتوفر عليه موغا حتى يتم اختياره للإشراف على صفقة بهذا الحجم، تمثل طرفين كبيرين ومهمين، هما مكتب المناجم والجهاز العسكري الفرنسيين؟
حسب ما ترجحه بعض الروايات، فإن «موغا» كان متمكنا من عمله، وكان يسيطر على المنطقة بيد من حديد، ولهذا تم تفويت أمر الإشراف على تحقيق الصفقة إليه دون غيره من المسؤولين العسكريين. تقول بعض الروايات إن أولى الصفقات التي نقلت اليد العاملة المغربية إلى فرنسا، كانت غامضة ولم تكن هوية المكلف بها معروفة. كان هذا بالضبط سنة 1930.
سنعود إلى تفاصيل الصفقة لاحقا. الأكيد أن موغا لم يكن خلفها لأنه وقتها لم يكن قد ألحق بمنصبه السيادي بعد. لكن السبب وراء تكوين أسطورته، هو إدراك السلطات الفرنسية أن منطقة الجنوب كانت مليئة بنموذج اليد العاملة المغربية التي تصلح لذلك النوع من الأشغال التي تتطلب لياقة بدنية عالية. فرنسا تدرك أن أكثر الهزائم التي ألحقت بالجيش الفرنسي كانت في الجنوب المغربي، خصوصا في الجنوب الشرقي لأكادير، وهكذا أدركت مبكرا أن اللياقة البدنية لأناس الجنوب عالية جدا، ولكي تتمكن من السيطرة على عملية نقل اليد العاملة إلى المناجم، كان يلزمها مشرف عسكري في مستوى الصرامة المطلوبة، وأيامها كان «موغا» في قمة عطائه العسكري على رأس مكتب كلميم، وكان يحصي أنفاس الأهالي هناك، ويحاول إخماد جميع التمردات. استغلت الإدارة العسكرية صرامة «موغا»، وأضافت إليها بعض التوابل لتصنع منه الأسطورة.

الحياة الأخرى تحت الأرض
جاء في شهادة مؤثرة، رغم أن أغلبها تعرض للتلف بسبب تدهور الشريط الصوتي، ما يلي: «كنا كلما شعرنا بأننا نتجه نحو الموت، نرفع أيدينا إلى السماء وندعو الله أن يموت «موغا» الذي أرسلنا إلى هذا الجحيم. صحيح أننا كنا نستفيد من تغذية مجانية، لكنها لم تكن جيدة دائما، كما أن الفرنسيين كانوا يسوقوننا إلى الموت دون تفكير. انفجر علينا مرة برميل كامل من الديناميت، وبقينا بعد ذلك غير قادرين على سماع أي شيء لثلاثة أيام متتالية. وفي مرة أخرى، كنا نتقدم في عملية الحفر، وفوجئنا بأن الدعائم الخشبية قد انهارت تحت ثقل الأتربة، كنا أزيد من عشرين فردا كلنا من نفس القرية، بقينا محتجزين لأيام تحت التراب ولم يبحث عنا أحد. كنا نحفر بشكل عشوائي وفي كل الاتجاهات إلى أن تمكن أحد أصدقائنا من صنع حفرة أخرجتنا من الركام. مات ثلاثة منا هناك، وخرج صديق لنا برجل مبتورة. طلبنا منهم أن يعيدونا فورا إلى المغرب فلم يوافقوا إلا بعد أن جاء فوج جديد من نواحي ورزازات. هذا الأمر كان بعد الحرب العالمية الثانية، لأننا وجدنا بعض المدن الفرنسية مهدمة عن آخرها. قلنا للجدد إنهم يمضون إلى الموت وازداد الرعب الذي كان باديا على وجوههم. تركناهم هناك ولا أدري ماذا حل بهم. رحلونا إلى المغرب ولم أعد إلى فرنسا أبدا، رغم أنهم صرفوا لنا منحة مالية سخية حتى نفكر في العودة مجددا لسنة أخرى، أو سنتين».
في شهادة أخرى، هناك شهادة يمكن أن نعتبرها الأقرب إلى وصف شخصية «موغا» أكثر من بقية الشهادات. يقول صاحبها، والذي قال في بداية التسجيل إن اسمه محمد بن الحسين، والذي كان عمره يتجاوز التسعين سنة، وقت تسجيل شهادته التي تعود إلى سنة 1991. يقول: «من يكون «موغا». الجميع كانوا يعرفونه. عندما تكون سيارته الرمادية قادمة في اتجاه القرية، يأمر الآباء أبناءهم بالاختفاء فورا. أنا خبأني والدي في البئر لأزيد من أسبوع، لأنني كنت الذكر الوحيد من بين بناته الكثيرات، ولم يكن مستعدا لرؤيتي أسافر مع الذين سيختارهم «موغا» لأنه يحتاجني للقيام بأعمال الزراعة. كان أقراني يخافون من «موغا» لأنه يأخذهم نحو المجهول بعد أن يتفحص أسنانهم وصدورهم وأرجلهم ويختبر قدرتهم على الصبر أيضا. لقد اختبرني مرة واحدة فقط، ولم أسافر لأن والدي منح المقدم كيسا كاملا من الزرع، حتى لا يختارني «موغا». عندما رأى موغا أنني أصلح للعمل، أخذني أحد الجنود إلى الشاحنة وجاء المقدم في غفلة منهم أنزلني منها، وأمرني أن أختبئ وراء الشاحنة إلى أن يعطيني إشارة بالانصراف، وفعلا تسللت ونجوت بجلدي.
عندما وقفت أمام موغا لم أفهم أي كلمة مما دار بينه وبين الطبيب. كان الطبيب يرتدي بذلة بيضاء، ويتفحصني بأداة خاصة يضعها داخل فمي. لكن «موغا» كان يحشر أصابعه في فمي بقوة ويتفحص لساني وأسناني تماما كما نتفحص نحن البغال في الأسواق الأسبوعية. لم يكن موغا يقبل أن أنظر في عينيه مباشرة، لأنني عندما حاولت النظر إليه، أمرني المقدم الذي كان يعرف والدي أن أنزل عيني إلى الأرض، وقال لي إن موغا إذا اكتشف أنني أنظر في عينيه مباشرة، فسوف يغرز فيهما سكينه الصغير وهكذا بقيت أنظر إلى الأرض».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى