الرأي

هيكل يرغب في معرفة تفكير الحسن الثاني

كما يُحتفى بالكبار، حرص رئيس تحرير «القبس» الكويتية جاسم الصقر، الذي كانت تغلب عليه نزعته القومية، على أن يخص الكاتب المصري الكبير حسنين هيكل بحفاوة ضيف شرف لاجتماع أسرة تحرير الصحيفة في باريس، بمناسبة مرور عام على صدور طبعتها الدولية. والظاهر أن جاسم الصقر، الذي سيصبح رئيسا لاتحاد البرلمان العربي بعد تجربة في مجلس الأمة الكويتي، كان يسعى إلى نوع من التميز الإعلامي بنكهة غير مألوفة في دول الخليج، في ضوء ريادة بلاده إلى عالم جدل الصحافة والسياسة والانتماء إلى العروبة.
كانت المرة الأولى التي ألتقى فيها الكاتب حسنين هيكل مباشرة، بعد أن جربت النفاذ إلى عالمه، من خلال كتبه و«بصراحته» التي كانت أكبر شساعة من أي مقال أو رأي.. كونها تعكس بعمق ورصانة ما كان يفكر فيه أهل القرار في مصر.
ذلك أن الكتابة السياسية تكسب قوتها ونفوذها من قرب صاحبها إلى مصادر القرار. وفي فترة هيمنة الناصرية واستئثار القاهرة بدور مركزي في السلم والحرب، كانت كتابات هيكل دليلا لا يخطئ عما يجول في خاطر عبد الناصر، ثم لاحقا في ذهن خلفه، قبل إبعاد الكاتب الكبير عن مكتبه في «الأهرام».
يتعين الاعتراف بأن هيكل، إن كان صنع صورة عبد الناصر، عبر خطبه ومواقفه، فإنه صنع صورته أيضا كاتبا سياسيا، يمزج بين عمق المعرفة وسعة التحليل وتراكم المعطيات. وقد أبدع في وقت مبكر فكرة خلايا التفكير وجمع المعطيات واستحضار الحقائق قبل الشروع في الكتابة. غير أن قراءته في فترة عنف وقلق وتمرد الشباب، ليست مثل الإصغاء إلى تدفق المعلومات والتحاليل والرؤى، إزاء مختلف القضايا والإشكاليات التي كانت مطروحة في نسق تاريخي، عاصره وأثر فيه وتأثر به، من دون أن يفقد بصماته حين أبعد عن مربع القرار. ما أهله لأن يخلق جنسا جديدا من الكتابة السياسية التي لا تتقادم معطياتها، بل تتجدد نبراتها. إذ أصبحت زيارته للتاريخ أشبه بالتنقيب عن الكنوز. يقرأ الأحداث والوقائع في سياقها، ثم يضفي عليها من لبوس الاستنساخ ما يجعلها تتدفق حياة. لو لم يكن هيكل كاتبا سياسيا لكان مؤرخا من طراز فريد، يحمل الماضي إلى الحاضر ويغوص بالمستقبل نحو ماضيه.
كان اللقاء معه فرصة نادرة يحلم بها كل الصحفيين، المبتدئين مثلي والشامخين. وحكى في جلسة مصارحة أنه لم يشعر بحدوث أي تغيير في حياته عندما أنزل من عرش «الأهرام». قال إنه استيقظ في اليوم الموالي، مبكرا كعادته، ارتدى ملابسه التي يحرص فيها على أناقته، ونزل من الدرج إلى مكتبه في الطابق السفلي من الفيلا التي يقطن بها.
دلف إلى مكتبه كما لو كان صاعدا إلى أعلى الطابق في مبنى «الأهرام»، وبدأ قراءة تقارير حول أحداث مصر والعالم العربي وبؤر التوتر. رشف قهوته ودخن سيجاره، وطلب ألا يتم تحويل أي مكالمة هاتفية إليه. قال إنه لم يغادر مكتبه في مسكنه إلا في الموعد المعتاد. فقد حمل معه «أهرامه» كما هي الأسرار والعادات إلى مقر عمله الجديد. قال، ضمن ما أذكر، إن الشيء الوحيد الذي كان مختلفا هو استنشاق رائحة المطبخ بدل الورق والمداد، والإصغاء إلى آخر الطرائف عن مصر أنور السادات.
سألني هيكل عن واقع وملابسات السياسة في مغرب منتصف الثمانينيات، وليس عن المشهد الصحفي. وطلب إلي، بكل تواضع، إن كان في وسعي أن أرسم صورة عن كيفية تفكير الملك الحسن الثاني. لعله كان يرغب في إكمال معادلاته، إذ لا يكتفي بما يعرف، ولا يتوقف عند المسلمات وبديهيات المواقف، بل تستغرقه التفاصيل. روى كيف أنه ابتهج يوما لدى سماعه خبرا عن تعيين بوعبيد وزيرا أول، لكنه أصيب بخيبة، على حد تعبيره، عندما تبين أن المعني بذلك التعيين لم يكن الزعيم المعارض عبد الرحيم بوعبيد، بل النقيب المعطي بوعبيد. وخلص آنذاك إلى أن الحسن الثاني لاعب شطرنج ماهر، لكنه ظل على خلاف مع سياسته ومواقفه.
تشعب الحديث حول محور العلاقات المغربية – المصرية، خصوصا على عهد الزعيم جمال عبد الناصر، وأبدى استغرابه لكون المغاربة لم يكتبوا عن فترة الصراع، وعن حرب الرمال وعن تباين المواقف إزاء التعاطي وأزمة الشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي. مما قاله إن مفكرين ورجالات سياسة جزائريين فتحوا له خزائن الأسرار، فيما أن المغاربة لم يفعلوا الشيء ذاته، لأنهم كانوا يصنفونه في خانة الخصوم.
هل كان واردا القفز على جليد خلافات قديمة في المنظور الاستراتيجي للبلدين؟ كل شيء نسبي. وما كان يصلح معيارا للحكم على مرحلة، لا يبقى مفعوله ساريا بنفس القوة والحماس والإقناع. فقد انتقل الصراع بين البلدين في فترة حكم عبد الناصر إلى الساحة الإعلامية. ولم يتقبل الحسن الثاني كيف أن صحيفة مثل «الأهرام» كتبت في عددها للعاشر من يوليوز 1971، أن «الضباط الأحرار استولوا على الحكم» في المغرب.
روى المستشار عبد الهادي بوطالب أن الملك الراحل الحسن الثاني طلب إليه كتابة بيان ينتقد فيه موقف الصحافة المصرية التي «عبرت عما كانت ترغب فيه»، فتمنى عليه بوطالب إرجاء النظر في الدخول في مواجهة مع الإعلام المصري الذي كان واسع الانتشار وقتذاك.
ورغم التزام هيكل مواقف غير منصفة، فالراجح أنه تأثر بما كان يتم تداوله آنذاك عن تجربة الحكم في المغرب. إذ يجب ألا يغيب عن الأذهان أن رموز المعارضة المغربية كانوا يقيمون في مصر، وفي مقدمتهم الزعيم المهدي بن بركة، الذي غادر القاهرة ذات صباح ولم يعد إليها أبدا، تاركا مسكنه وأبناءه هناك في ضيافة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى