الرأي

واقفون لهم بالمرصاد

ساحة «لاريبيبليك» هي خلاصة معقلنة لساحات كانت مسرحا وقلبا نابضا لانتفاضات وثورات ضخت في التاريخ دينامية غير مسبوقة، مثل ميدان التحرير٬ ساحة التغيير٬ ساحة الشهداء أو بويرتا ديل صول إلخ… هي فضاء بمساحة ثلاثة هكتارات ونصف يتوسطه تمثال ماريان، رمز الجمهورية الفرنسية، ويقع على نقاط التقاطع بين 3 مقاطعات رئيسية. تحولت الساحة على مر السنين إلى محج تنطلق منه أو تفضي إليه المظاهرات النقابية أو الحزبية وكل الاحتجاجات… وبعد أحداث «شارلي إيبدو» جمعت الساحة مسيرة ضخمة شارك فيها بعض رؤساء وكبار مسؤولي دول العالم. لكن، ومنذ 31 مارس الماضي، تحولت ساحة «لاريبيبليك» إلى مجمع يعتصم به كل مساء عشرات، بل مئات المواطنين أغلبهم من الشباب الذين لا يتعدى سنهم الثلاثين عاما. وقد أطلق على الحركة التي «استولت» على الساحة، والتي لم تكتمل بعد أوصافها شكلا ومضمونا، تسمية «الواقفون ليلا». وإن نهلت الحركة من فلسفة تنظيم «الغاضبين» الإسباني الذي يعتبر اليوم التشكيلة السياسية الوازنة بامتياز في المشهد الإسباني، فإن حركة «الواقفون ليلا» سليلة مجتمع مدني ساخط على سياسة هولاند وفالس، مع سعي إلى تأسيس تجمع ينأى عن السياسة في معناها السوقي والمبتذل، لاقتراح بدائل عملية من أجل ديمقراطية حقيقية.
وقد كان قانون الشغل الذي اقترحته مريم الخمري، وزيرة الشغل الفرنسية، شرارة انطلاق هذه الحركة التي ستقفل شهرها الأول مع انتشارها عبر ربوع فرنسا، وبالأخص في المدن الكبرى. لصياغة هذه البدائل انطلق المنشطون من فكرة بناء محترفات ومنتديات مفتوحة تتبلور وتصاغ فيها يوميا أولى الأفكار والمشاريع. لذا يبقى النقاش٬ تبادل الرأي أو التناظر أحد العناصر المؤسسة لهذا المختبر الشعبي الذي هو قيد تقويض دعائم السياسة بمعناها الاحترافي والشعبوي. ثمة انطباع أن الشباب المتواجد بالساحة يطمح إلى صنع مستقبله بنفسه في المختبرات التي أطلقت بعين المكان. بمعنى أن الحركة ترغب في ابتكار نموذج سياسي واجتماعي مغاير لحركة «الغاضبين» بإسبانيا، التي تحولت إلى فصيل سياسي بمنتخبين وممثلين في المجالس البلدية وفي البرلمان. فبحسب اعتراف المنشطين لـ«الواقفين ليلا»٬ فإنه لا يمكن اختزال الحركة في معارضتها لقانون مريم الخمري، بل هي حركة تسعى لتغيير مجمل النظام مع التأسيس لمشروع سياسي جديد وبديل لما يقترحه اليسار. وبذلك يسعى جيل الشباب الحالي إلى عقد الصلة مع التقاليد الثورية التي تعتبر فرنسا معقلها بامتياز. لكن يتردد بإلحاح السؤال التالي: ما هو مصير الحركة في الأسابيع أو الأشهر القادمة؟ فيما يرى البعض أنها لا تعدو يوتوبيا حالمة قد تنكسر على واقع منافسات الأورو لكرة القدم في شهر يونيو، لما يهجر المعتصمون الساحة إلى المقاهي لمتابعة المنافسات٬ يعتبرها البعض الآخر حدثا مستداما سيكون له وقع بالغ في الانتخابات الرئاسية لعام 2017. المهم أن الحركة سطرت إلى الآن مساحة وأجندة تحركها وتسعى إلى الحفاظ على تميزها، بالرغم من أعمال الشغب التي تتسبب فيها بعض العناصر المتطرفة، أو بالرغم من الحملة المعادية لبعض المنابر الإعلامية وأقلام الفكر التي بدأت في كيل النعوث المشينة للحركة. وقد بلغ القذف والتلاسن أوجه على خلفية الزيارة التي قام بها الفيلسوف آلن فينكلكروت لساحة «لاريبيبليك». تجول لمدة ساعة كاملة من دون أن يقلق راحته أحد، لكن عند مغادرته رفقة زوجته للساحة دعاه بعض الأفراد إلى إفراغ المكان بصفته شخصا غير مرغوب فيه إلى أن احتدم تبادل الشتائم. وكانت الفرصة سانحة ليلبس هذا الفيلسوف المناهض للعرب والمسلمين والسفير الفكري لإسرائيل بفرنسا، ثوب الضحية. وانتظمت للتو الجوقة المناصرة له للتنديد بحركة «الواقفين ليلا» التي لا تعدو في نظرها «تنطيما نازيا».
هكذا دخل على الخط مفكرون٬ سياسيون٬ إعلاميون يشاطرون فينكلكروت الرأي، من أمثال ميشال أونفري٬ كارولين فوريست٬ إيريك زمور لإظهار أن الحركة صبيانية وغير متسامحة، كل ذلك سعيا إلى النيل من الحركة ومنشطيها. لكن هذه الحملات لم تؤثر على شعبية «الوقفين ليلا» التي اتخذت علاوة على منتديات النقاش الفكري والسياسي أشكالا فنية، مثل مبادرة «متاحف واقفة» والتي تهدف إلى عرض لوحات فنية لرسامين كبار بالساحة العمومية، أي إلى إخراج المتاحف إلى الفضاء العمومي، أو مبادرة «أوركسترا واقفة» التي أدت سيمفونية «العالم الجديد» للموسيقار دفورجاك.
الخلاصة أن الزائر أو المتردد على الساحة يخرج بانطباع أن النموذج الديمقراطي المقترح إلى الآن، اهترأ وهرم ولم يعد صالحا ولا ناجعا، وأنه في مختبرات ومنتديات الساحة قد يبزغ نموذج بديل مؤسس للمساواة٬ للعدالة والسلم٬ يلعب فيه الشباب دور المهندسين. وستوفر مظاهرة 28 أبريل وفاتح ماي، مناسبة للوقوف على وزن وحجم هذه المبادرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى