الرأي

ورطة التسلح

حين نسمع عن صفقات الأسلحة نصاب بالذهول، ولعل منبع الشرور هو الخوف من الجوار؛ فيتسلح كل فريق بما يضمن عدم عدوان الجوار، ولكن السلاح ورطة فيجب أن يكون أفضل من الذي عند الجار فتكا وتدميرا إذا جاءت ساعة الحقيقة؟ وهذا له ثمنه؟
أذكر جيدا من حرب عاصفة الصحراء كيف تواجهت دبابات صدام من نوع ت 72 مع دبابات أبرام الأمريكية. كان مجال دبابة أبرام خمسة كيلومترات، مقابل دبابات صدام بمدى ثلاثة؛ فاحترقت في أرضها قبل أن تطلق أي طلقة.
سلاح متطور يعني جبالا من المال، من جيوب دول مفلسة، تئن من العجز؛ فتزداد فقرا على فقر، ومشكلة فوق مشكلة، حتى تأتي الزلزلة؛ فتزداد الأمور سوء والطين بلة، وينتفخ جيب اليانكي كما رأينا في كارثة الرهن العقاري عام 2008 لمدراء بنوك من (الشفارة المحترفين) الذين أعادهم أوباما من جديد؛ فينهبوا أكثر، بعد أن تدربوا على التشفير (بتعبيرنا المحلي شباطين أي حرامية = شبط أي سرق) كي يكونوا أسوة لشفاري العالم.
ورطة التسلح ولدت مع ظاهرة الحرب مع فجر الحضارة حين أُصيبت الإنسانية بمرض الحرب، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لإنتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لايقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود، والعدم يلف الكون، والانتحار ينتظر الجميع، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة. لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أذكر يوما حين نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة وقالت: يا أبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفية كأس العالم لكرة القدم؟ ولا أهمية ألعاب الأولمبياد؟ أو سباق الماراتون؟
اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته، كما اعترف للقارئ بأنني أستغرب أحياناً وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام!
قلت لصديقي الدكتور عماد: هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراتون؟ هز رأسه بالنفي فقلت له إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس (دارا) لبلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراتون، مما جعل العدَّاء اليوناني (فيديبيدس ـ PHEIDIPPIDES) يركض إلى كلٍ من أثينا التي تبعد خمسين (50 كم) وإسبرطة التي تبعد (224 كم) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة، وطلب المساعدة الإسبرطية من جهة أخرى، ويقال أنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل، فهذا هو سباق الماراتون وأصله التاريخي.
وصف المؤرخ البريطاني (هـ . ج . ويلز ) (H . G . WELLS) عبور كزركسيس (XERXES) لمضيق الدردنيل (HELLESPONT) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان على الشكل التالي:
(حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن، ورأى كل شواطيء سهول أبيدوس غاصة بالرجال، قال عن نفسه إنه لسعيد، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع؛ فسأله عمه أرطبانوس: فإنك قد وصفت نفسك رجلاً سعيداً تذرف الدمع الآن فأجاب الملك: أجل إني بعد أن أحصيتهم عداً دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حياً بعد أن تمضي مائة من السنين) (يراجع كتاب معالم تاريخ الإنسانية ( THE OUTLINE OF HISTORY BY H . G . WELLS ) – هـ . ج . ولز – المجلد الثاني – ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد – لجنة التأليف والترجمة والنشر – ص 367).
وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الإغريق بحراً، وبعدها بعام هُزم قائده ماردونيوس (MARDONIUS) في معركة بلاتيا عام (479 قبل الميلاد) براً، على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت، والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس، وكانت معركة بلاتيا (PLATAEA) من أكثر معارك التاريخ القديم حسماً، لأنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الإغريق في هذه المعركة هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وماهو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة؟
رحلة القوة
نحن في هذه المسألة لسنا في صدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح، فهذا له بحثه الخاص، والمقالة حصرت نفسها في تطور أداة القوة وطريقة استخدامها، وما نريد تسليط الضوء عليه هو (رحلة القوة) وكيف بدأت؟ كيف نمت؟ كيف تطورت؟ وأين وصلت اليوم؟
أي أننا نطبق منهج (الجنيالوجيا) (GENIALOGY) على علم الحرب (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)، فهي محاولة لفهم كيفية بدء (خلق) ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به منذ أن خُلقت الخليقة!
يمكن بلورة الصراع المسلح عبر التاريخ في مراحل وأفكار سوف نتناولها بشكل متدرج وفي حلقات من البحث آمل أن يصبر القارئ على تتبعها.
ـ المرحلة الأولى: يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً (أسلوب لأقتلنك)، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة، مقابلاً أسلوب (القتل) بأسلوب جديد مدهش هو (التخلي عن القوة من طرف واحد)، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل، في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية. ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجرا .
2 – المرحلة الثانية: دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي (التعددية) وعدم الاعتراف بالاختلاف، من خلال تطوير أدوات (لأقتلنك)، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش (الذكورية)، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة، لأن مرض الحرب دخل في تركيب الحضارة فيما يشبه الخطأ (الكروموسومي) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا (مرض).
إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت (دورة الحرب) تأخذ نظماً تاريخياً، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف.
3 – المرحلة الثالثة: أصبحت ظاهرة الجيوش (الذكورية) ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة (الدفاع) عن المجتمع، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وإمبراطوريات التوسع إلى ما يلي:
تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة ووضع ميزانية مخيفة للتسلح، هدفها الأول الاستمرار بالاحتفاظ بالسلطة إلى أقصى فترة وبقوة السلاح. انظروا نموذج بشار البراميلي وشعاره: يحكم الأسد أو نحرق البلد. ينقل عن المانفيستو الشيوعي في مطلع القرن العشرين شيء من هذا القبيل، حين رسموا هرما يجلس في الأعلى الحاكم وتحته كلمة: نحكمكم، تحته العساكر ومعهم كلمة نقتلكم، تحتها طبقة الكهان وبجانبها كلمة نخدعكم. وفي أسفل الهرم العمال والفلاحون وفوق جباههم كلمة نخدمكم ونطعمكم. لا غرابة إذن أن يطلق كارل ماركس مقولته المشهورة الدين أفيون الشعوب. إذا قام بدور المخدر وتشغيل طاقة الإنسان بترهات القرون في قضايا لا تنتسب لعصره كما نرى في الصراع المذهبي في الشرق الأوسط، وكيف يقتل شباب من لبنان وهم يزعقون يا زينب يا حسين يا رقية ولا وجود لهم إلا في الأوهام. مما جعل نكتة تنتشر في النت في بريطانيا حين تشاجر شيعي وسني وبدأوا بالتضارب فأحضرتهم الشرطة إلى القاضي ليسألهم ما سبب اقتتالكم فصرخ الشيعي إنه معاوية؟ صرخ السني إنه علي؟ هنا التفت القاضي وطلب شهادة علي ومعاوية فقال أين هم أحضروهم. ثم التفت للشيعي والسني وقال أين علي ومعاوية؟ قالا بصوت واحد عاشا قبل 1400 سنة. هنا أمر القاضي بإحالة الشيعي والسني إلى مصحة للأمراض العقلية.
أذكر أنا شخصيا عن شيعي التقيت به في الدانمرك، وكان يحضر من السويد لقرب المسافة، حين كان يشرح لأستاذ جامعة سويدي، عن مصرع الطفل في معركة كربلاء فسأله السويدي وهل أحضر الحسين طفله معه إلى المعركة؟ قال نعم؟ ابتسم السويدي وقال: عفوا حسينكم هذا جنى على الطفل.
هي صدمة لعقولنا ولكن الغربي لا يستطيع تصور أرض معركة يتقاتل فيها القوم ونحضر لها أطفالنا. (وللبحث تتمة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى