الرأي

وكان الدعاء بردا وسلاما

أخطر من تسييس حادث التدافع الأليم في مشعر منى بالأماكن المقدسة، أنه يعاود صراع المذاهب في جانبه السلبي إلى الواجهة، بما جعله يتحول إلى ذرائع للكشف عن مخزون العداء والتشكيك، فيما كان يفترض أن يكون مناسبة للدعاء بالرحمة والغفران للضحايا وتمنيات الشفاء للجرحى والمصابين، من دون إغفال الإجراءات الصارمة في التحقيق ورصد الأسباب وتحميل المسؤولية في التهاون وعدم أخذ ما يلزم من الحيطة.
جانبان منفصلان في التعاطي والحادث الأليم الذي هز المشاعر كان يجب أن يتقاطعا، من دون أي تعصب أو إصدار للإحكام الجاهزة أو التقليل من شأن حادث بهذه الصدمة العنيفة. يتعلق الأول منهما بإبعاد الخلافات السياسية، مهما كانت حدتها ومنطلقاتها عن تكييف الحادث. فالموت واحد، سواء كان بفعل الحوادث أو الحروب أو الكوارث الطبيعية، أو الأقدار التي لا مرد لها، والعبرة في تلافي الأسباب التي تؤدي إلى إزهاق الأرواح.
الأكيد أن هناك فرقا بين توجيه الصراعات التي تؤول إلى الحروب والاقتتال الطائفي والمذهبي، كونها نتاج اختيارات خاطئة تهدر أرواح الإنسان الذي كرمته العناية الربانية في أحسن تقويم، وبين الحوادث التي تنجم من خارج الإرادة، مثل الفيضانات والأعاصير والزلازل وحرارة الشمس حتى. وقد اهتدى العقل البشري إلى استخدام التطورات العلمية والتكنولوجية للحد من مفعول مثل هذه الحوادث.
ولعل الأخطر في تسييس صراعات المذاهب أنه يميل دائما إلى استخدام المرجعية الدينية في غير ما وجدت له، فالأصل في الشريعة ومقاصدها وفي العبادات ومراميها أنها ترتقى بالمشاعر الإنسانية وتصون وجود الإنسان على ظهر البسيطة من نوازع الشرور والاستعداء والاستعلاء. وليس مقبولا أي استعمال للدين خارج الألفة والحوار والتضامن وزرع الطمأنينة والسكينة والثقة والإيمان. وكل إمعان في استغلال الشعائر الدينية لأهداف سياسية أو مذهبية أو نزعات توسعية يظل مرفوضا دينيا ودنيويا، لأنه يتجاوز التعاطي مع الأحداث في إطارها الموضوعي، ويحاول إضفاء أبعاد أخرى عليها لا علاقة لها بحقيقة الأمر.
في حادث منى المأساوي الذي هز المشاعر، تحملت السلطات السعودية مسؤولياتها في إجراء تحقيق حول أسبابه المباشرة وغير المباشرة، ويعني ذلك في بداية الأمر أنها أقرت بالمسؤولية المعنوية، في ضوء التوصل إلى خلاصات نهائية تضع الرأي العام أمام حقيقة ما حدث. وبالتالي سقطت مبررات إصدار الأحكام حول حادث يوجد في طور التحقيق، وكان حريا انتظار نتائج التحقيق لاستخلاص جوانب النقص والارتداد، مهما كانت طبيعتها بشرية أو مادية، ولا يمكن والحالة هذه غض الطرف عن التجهيزات والمرافق التي وفرتها السلطات السعودية، عبر توسيع الحرم وتأمين المواصلات والخدمات لأزيد من مليونين من الحجيج الذي يتوافد كل سنة على الأماكن المقدسة.
الأهم في غضون ذلك أن ما سيكشف عنه التحقيق الموضوعي، سيصبح مدخلا لإحداث تغييرات جوهرية، وقد عبر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز عن هذه الرغبة وهذا الالتزام منذ اليوم الأول للفاجعة، وكان يفترض في مقابل ذلك التروي في إصدار أي أحكام، خصوصا تلك التي تبين من مضمونها أنها كانت تنتظر الفرصة لبث نزعات الفرقة وإطفاء أبعاد سياسية على الحدث الأليم.
لابد لهذه الواقعة المأساوية أن يكون لها تبعات ومضاعفات، أقلها البحث في تأمين شروط سلامة أفضل أثناء تأدية مشاعر رمي الجمرات وغيره من طقوس الطواف وظروف الإقامة والنقل. غير أن ذلك لا ينقص من أهمية وحجم الجهود المبذولة، والذين كتب لهم أداء مناسك الحج على امتداد الفترات الأخيرة، يدركون من خلال المعاينة وتلمس الإنجازات الهائلة أن تغييرات كبيرة حدثت، على مستوى ضمان راحة الحجيج وسلامتهم. ولئن كان حادث منى صادما في أعداد ضحاياه وظروف رحيلهم، فإن العبرة ألا يتكرر مثل هذا الحادث الأليم.
في مناسبات مأساوية أشد وطأة ووقعا على النفوس، يتذكر المغاربة مبادرات قوية بإيحاءات الإيمان والصبر والتعاطي مع القضاء والقدر، ففي الحرب التي تعرض لها لبنان عبر الغزو الاسرائيلي الذي حاصر بيروت، أو أثناء حرب الخليج الثانية، كانت الدعوة إلى تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم في البيوت والمساجد، حيث لا أفضل من الدعوات بالغفران والرحمة. وما أحوج المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى استيحاء المضمون الرائع لهذا التقليد.
لقد اختار القضاء والقدر مؤمنين طاهرين إلى جواره في أقدس الأماكن المقدسة، ومن الواجب على المسلمين إزاءهم الدعاء لهم. لكن ذلك لا يبخس جهود إجراء تحقيق موضوعي يكشف عن الثغرات، أما الإمعان في وضع لبوس سياسي على الحادث، فليس من فضائل وشعائر الإعلام في شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى