شوف تشوف

أشياء فاتت

نحن أمام جيل كامل لم يلحس طابع البريد بلسانه لكي يبلله بلعابه قبل أن يلصقه فوق ظرف الرسالة البريدية، فأبناء اليوم يتراسلون بواسطة البريد الإلكتروني و«الوات ساب» و«الطانغو» وما إلى ذلك من وسائل الاتصال الحديثة.
نحن أمام جيل كامل لم يجرب في يوم من الأيام أن يدخل «ستيلو بيك» في إحدى دوائر «الكاسيطة» لكي يعيد الشريط الموسيقي إلى الخلف لأن زر «السجالة» معطل.
ونحن أمام جيل كامل لم يجرب يوما البحث عن الموجة في مذياع، ولم يجرب طعم الكاربون الأسود في فمه عندما يعض إحدى بطاريات الراديو الميتة بحثا عن أمل بعث بعض الطاقة فيها.
هي أشياء ضاعت مع التقدم التكنولوجي الحديث، عشنا حلاوتها ومرارتها نحن جيل السبعينات والثمانينات وتركت في قلوبنا آثارا لن تمحى.
الآن لم يعد أبناء اليوم يحتاجون سعاة البريد كما كنا نحن نحتاجهم، فهم منشغلون بكتابة الرسائل الهاتفية القصيرة المليئة بالأخطاء، عوض كتابة واحدة من تلك الرسائل التي كنا نقضي أياما في مراجعتها وانتقاء كلماتها والرسومات التي سترافقها.
عندما أرى واحدا من أبناء اليوم منشغلا بخشوع بكتابة رسالة قصيرة على هاتفه المحمول، أعود بالذاكرة إلى الوراء وأرى نفسي فجأة متكئا فوق «خنشة» من ذلك «الخيش» المليء بالتبن الذي يحمل علامة «النمر»، غارقا في قراءة الرسائل التي كانت تصلني على عنوان دكان جدي رحمه الله.
ففي تلك المراهقة البعيدة اكتشفت أن علاقتي الوحيدة بالعالم الخارجي لن تكون سوى عبر الرسائل، أما العناوين فقد كانت طبعا متوفرة في أغلب المجلات والجرائد والبرامج الإذاعية، وليس مثل اليوم حيث «الفيسبوك» يوفر لك الآلاف من الأصدقاء بمجرد ضغطة زر.
في تلك المراهقة البعيدة كان الجميع يبحث عن ربط علاقات صداقة وتعارف بالمراسلة. وليس مثل اليوم حيث حرم البريد الإلكتروني، برسائله السخيفة التي تدعوك إلى قراءتها وعدم تفويت أجر إرسالها إلى مائة من معارفك وإلا سيعذبك الله عذابا شديدا، أجيال اليوم من متعة الجلوس إلى الطاولة أمام ورقة بيضاء أو بطاقة سياحية عن مدينتنا لكتابة رسالة بعبارات مختارة بعناية.
هل لاحظتم كيف أن البطاقات السياحية للمدن المغربية انقرضت بدورها من المكتبات؟
في السابق كانت مكتبة مدينتي الصغيرة تعرض بطاقات للمسبح البلدي الذي «تشلبطنا» طويلا في مياه مسبحه الصغير الخاص بالأطفال والمخلوطة بالكلور والبول، وبطاقات حول الحديقة العمومية حيث كانت مواعدنا الغرامية الأولى، ومقر العمالة الذي اعتصمنا أمامه لسنة من أجل الشغل، والشارع الرئيسي الوحيد بالمدينة الذي كنا نذرعه جيئة وذهابا طيلة ليالي الصيف الحارة، لنعرض أذرعنا المحمرة نهارا تحت شمس غشت فوق رمال شاطئ بوزنيقة الذي كنا نسميه شامتين «خليج الخنازير».
أما اليوم فيستحيل أن تعثر على بطاقات أخرى في المكتبات غير بطاقات تعبئة الهاتف الجوال. أستطيع أن أقول إنني أصبحت مدمنا على الكتابة بسبب الرسائل تحديدا. وكانت علاقتي بالمراسلة قد بدأت وعمري ثلاث عشرة سنة، عندما كانت تأتيني جارتنا برسائل أخيها المهاجر بفرنسا لكي أقرأها عليها. بعد ذلك كانت تعطيني خمسين فرنكا لكي أشتري لها ورقة مزدوجة  و«جوا» أبيض يحمل صورة طائرة، ثم أعود لكي أجلس فوق «الميدة» المصنوعة من العرعار، والتي هزمتها بعد سنوات قليلة «ميدة الفورميكا»، وأنقل فوق الورقة سلام الجارة الحار وأشواقها العطرة ومطالبها الملحة إلى أخيها العزيز، قبل أن أختم بالعبارة المعتادة «وإذا سألتم عن أحوالنا فنحن بخير وعلى خير ولا يخصنا سوى النظر في وجهكم العزيز».
واحتراما لساعي البريد الذي سيحمل الرسالة، كان العرف يقتضي أن تكتب له جملة امتنان على ظهر الظرف تقول فيها «شكرا لساعي البريد». فقد كانت تلك طريقة هواة المراسلة ومستعملي خدمات البريد في التعبير عن امتنانهم لهؤلاء الرجال الذين يحترفون نقل مشاعر الأخوة وأحاسيس المودة وغراميات العشاق ومطالب الأقرباء وضرائب الدولة واستدعاءات المحاكم وأوراق الطلاق.
وعندما كنت أنهي مهمتي كانت الجارة تعطيني دائما برتقالة كبيرة. بينما كان حلمي أنا هو أن أطلب في رسالة من الرسائل التي أكتب لأخيها أن يحمل لي معه عندما يأتي في الصيف دراجة هوائية، كان ذلك أقصى ما أحلم به. أن تكون لي دراجة هوائية خاصة بي حتى أترك دراجة جدي في حالها. فقد كان رحمه الله في كل مرة يغير قفلها حتى لا أسرقها منه عندما يغرق في قيلولته الطويلة بعد الغداء، وأضطره للذهاب إلى دكانه مشيا على الأقدام.
مر وقت طويل وأنا أكتب رسائل الجارة وأقرأ عليها بريدها، إلى أن انتقلت إلى مدينة أخرى. فقلت مع نفسي إنني يجب أن أبحث لي عن أصدقاء أستطيع مراسلتهم عبر البريد. خصوصا وأن دكان جدي كان عنوانا قارا مشتركا بين عشرات الزبائن الذين كانوا يأتون لاقتناء حاجياتهم والسؤال عن رسائلهم، ولاسيما زوجات الجنود الذين كانوا يرابطون في الصحراء. فقد كن يسألن عن رسائل أزواجهن ابتداء من منتصف الشهر، موعد إرسال الحوالة البريدية. وبالإضافة إلى زوجات الجنود، كان دكان جدي عنوانا للأساتذة والمعلمين والموظفين الذين حلوا بالمدينة حديثا، واكتروا بيوتا في أحياء لا تحمل اسما ولا رقما. وهكذا كان دكان جدي «بوسطة» حقيقية تجتمع فيها رسائل من كل جهات المغرب. في تلك الثمانينيات كان الحصول على أصدقاء عبر المراسلة صعبا ومكلفا، وليس مثل اليوم حيث يستطيع أي مراهق بنقرة واحدة على زر حاسوبه الشخصي، أن يعثر على آلاف الأصدقاء الافتراضيين الذين يسكنون في الشبكة طيلة اليوم والليلة.
لذلك كان يجب البحث عن ركن التعارف في صفحات المجلات والجرائد، وقضاء وقت طويل في التربص بالبرامج الإذاعية التي تذيع عبر الهواء عناوين وأسماء الراغبين في التعارف في ما بينهم. هكذا أصبح لي أنا أيضا أصدقاء من مختلف مدن المغرب، أتبادل معهم الرسائل والبطاقات البريدية التي تصل على عنوان دكان جدي.
وفوق كومة التبن المتبقي من «خيش» سكر «النمر»، كنت أقضي ساعات طويلة في قراءة الرسائل التي تصلني، وبعدها أغرق في قراءة الكتب التي يبيعها أصحابها لجدي لكي يلف بها الخميرة وحبات عباد الشمس والتحميرة.
هناك التهمت ما لا حصر له من الكتب وأرشيفات الإدارات التي تباع بالكيلو. ولم يكن يفوق نهمي للكتب سوى نهم الجرذان التي كان جدي متخصصا في صيدها بتلك «النشبة» الحديدية الصدئة التي يضع فوقها كسرة من الخبز المدهون بالزيت، ويجلس بانتظار أن تطبق على «طوبة» قادها حظها العاثر إلى تلك الوليمة المفخخة.
فقد كان جدي رحمه الله يائسا من خدمات ذلك القط الكسول الذي تعود على أكل رؤوس الدجاج، وأضرب عن القيام بمهمته الأساسية التي جلبه جدي من أجلها، وهي صيد الجرذان. ولذلك كان جدي يركله في كل مرة يجده نائما فوق «الهيضورة» التي يصلي فوقها، قبل أن يشتمه بالشلحة. فجدي كان يتحدث الدارجة عندما يكون عاديا، لكنه عندما يفقد أعصابه بسبب القط، أو بسبب عدم تسديد زبون لديونه في الوقت المناسب، أو بسبب عدم «نصب» جدتي لطاجينه المفضل بلحم الغنم، كان يزمجر بالشلحة، وكأنه كان مقتنعا بأن ليست هناك لغة أخرى في الوجود تستطيع أن تستوعب غضبه غير لغته الأم.
عندما تركت مدينتي الصغيرة وذهبت إلى الجامعة، استطعت أن أحصل على عناوين لأصدقاء في الخارج. أكثر من ذلك، بدأت أرسل قصائدي وقصصي القصيرة إلى مجلات عربية من أجل النشر. وعوض أن أتلقى رسائل مجاملة أصبحت أتلقى شيكات من فئة مائة دولار عن كل قصيدة أو قصة يتم نشرها. وكانت هذه التعويضات أول مقابل مادي سأحصل عليه بفضل كتاباتي.
في السابق كانت الجارات يطلبن منا نحن الأطفال المتعلمين كتابة رسائل لأزواجهن وأقربائهن البعيدين، واليوم تجلس الأمهات والآباء أمام «السكايب» للتحدث مع أبنائهم في كندا وأوربا بالصورة والصوت عبر «الكاسك». كانت عناويننا عبارة عن دكاكين الحومة واليوم لكل منا عناوينه الخاصة على «الجيمايل» و«الفيسبوك» كنا نلتقي أصدقاءنا بعد سنوات من المراسلة، والآن يلتقي أبناء اليوم بأصدقائهم عبر «السكايب» كل ليلة.
كنا نوفر مصروف الجيب لكي نشتري طوابع البريد والأظرفة، والآن صار أبناء اليوم يوفرون مصروف الجيب لشراء بطاقات التعبئة لهواتفهم النقالة وشراء ساعة من الوقت للجلوس أمام شاشة خرساء وجامدة لكي يتحدثوا مع غرباء لن يلتقوا بهم أبدا ربما.
لقد تغيرت الأمور كثيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى