شوف تشوف

الرأي

أكل الخبز بالأدب..

أكبر غلطة ارتكبها المثقفون القدامى في حقنا وفي حق أنفسهم، هي أنهم تركوا المشهد للباحثين عن مأذونيات النقل ورخص استغلال مقالع الرمال عندما كانت البلاد في طور البناء. فبدل أن تتكتل نخبة مثقفة لتأسيس مشهد ثقافي في المغرب، اكتسح الذين اقتاتوا على بقايا المقاومة المسلحة، وهددوا باللجوء إلى العنف والسيبة إن هم لم يستفيدوا من الفراغ.
وهكذا انكمش المثقفون على أنفسهم، وانشغلوا بمطاردة لقمة العيش وتأسيس المشاريع الثقافية التي يبدو واضحا أنها ستتعرض للإفلاس قبل حتى أن تبدأ. والنتيجة كانت أن يفرخ الانتهازيون أبناءهم، ويتكاثروا مثل الجراد إلى أن أصبحوا بالشكل الذي نراهم عليه اليوم.
كل الشعوب التي مرت من المراحل الانتقالية الحاسمة، في الاقتصاد والسياسة، مرت سابقا بنقلة نوعية على المستوى الثقافي أولا، وهذا للأسف ما لم نفهمه نحن في المغرب. فبعدما طاردنا المخططات الخماسية والسداسية، واقترضنا من البنك الدولي وقبلنا الحصول على المساعدات، لم نفكر أبدا في الاعتناء بالإنسان لجعله مثقفا. المثقفون المغاربة تعرضوا دائما للإقصاء، وهناك من يقول إنهم أقصوا أنفسهم أيضا. والحقيقة أن الطرح الأخير قابل للتصديق أيضا. فإذا تأملنا حال بعض العينات من المثقفين، نجد أنهم مارسوا التهميش بالوراثة ضد أنفسهم. وهكذا تكرست لدى المواطنين صورة قاتمة عن المثقف بشكل عام.
إذا سألت أحدا من يا أيها الناس، عن انطباعه بخصوص الإنسان المغربي المثقف، ستجد أن الكاتب غالبا ما يكون إنسانا عاجزا عن تسديد إيجار البيت، مدينا للجزار والخضار وصاحب المقهى، ولا يتحدث إلا في الإشكاليات العالقة، ولا يقضي الليلة إلا متعبدا في الحانة ليصاب في نهاية المطاف بآلام في القولون، ويتنفس في الأخير بمساعدة آلة كهربائية. لا أحد يتحدث عن أعماله التي غالبا ما يتكلف أصدقاؤه الانتهازيون بنشرها على نفقة وزارة الثقافة، وتنتهي غالبا في محل لبيع الكتب المستعملة، ولا يقتنيها أحد ليقرأ معاناة المثقف المغربي القديم، إلا عندما تباع كلها بعشرة دراهم.
إنها مأساة حقيقية هذه التي وصلت إليها الثقافة في المغرب عموما. هناك قلة فقط من الأسماء التي أبدعت في الأدب المغربي خلال العقود الأخيرة، واستطاع أصحابها أن يؤسسوا لبداية عصر الرواية. ولم يثبت أبدا أن عاش مغربي واحد بعائدات كتاباته.. فأغلب الكتاب المغاربة الناجحين، تدبروا قوت يومهم وأبنائهم، لأنهم كانوا معلمين وأساتذة جامعيين. ولولا الأجرة التي كانوا يحصلون عليها من الدولة لانتهوا هم أيضا باحثين عن دعم وزارة الثقافة ومتسللين إلى منازلهم حتى لا يطالبهم صاحب البيت بأداء الإيجار.
يجب علينا بعد كل هذه السنوات، أن نكون صادقين مع أنفسنا على الأقل. لقد عاش الأدب المغربي أسوأ أيامه معنا نحن وليس مع أي أحد آخر. إذا عدنا إلى المائتي سنة الأخيرة، نجد أن المكتبة المغربية اغتنت إلى درجة تفوق الإشباع بآلاف المؤلفات التي جمعت لنا أرشيفا كاملا عن تاريخ المغرب، لا يمكن إلا نفخر به بغض النظر عن تصورات أصحابه ومواقفهم مما وقع ومصداقية ما كتبوه أيضا. لكن يبقى هناك رصيد ثقافي كامل ومحفوظ بفضل تجند السابقين لممارسة الثقافة حتى قبل أن يكون هذا المصطلح متداولا. سفراء كتبوا مذكراتهم، فقهاء انكبوا على التنقيب التاريخي وتدوين الأسماء والأحداث حتى لا ننتهي نحن بدون تاريخ.
ماذا قدمنا نحن للذين سيأتون من بعدنا؟ لا شيء إلا مقاطع الفيديو، ولا شك أنها ستكون يوما ما مرجعا شاهدا على هذا الانحطاط في المشهد الثقافي في المغرب.
نحن نحتاج إلى ثورة ثقافية حقيقية، وليس «الثورة» التي اكتشفنا في الأخير أنها لم تكن إلا زوجة الثور. على المثقف أن ينهض من سريره ويقطع مع عهد تسريحة الشعر التي يوجه فيها خصلات شعره إلى اليمين. على المثقف اليوم أن ينفش شعره وينزل إلى الشارع ليعيش مع الناس، ويحاول الكتابة دون الاستناد إلى دكة العقد النفسية التي تتملك أغلبية المثقفين، وأن يفكر في جعل هذا الشعب يقرأ، حتى يعيش المثقف في الأخير من مبيعات كتبه، وليس أن يأكل «مول» الكراء، حتى يستمر هو على قيد الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى