شوف تشوف

الرأي

أين اختفى الملحن عبد القادر وهبي؟

خلع الممرض عبد القادر وهبي بذلته، وانصرف يبحث عن الدواء الشافي من كل الأمراض. كان اسمه غريبا عن عالم الموسيقى والغناء، باستثناء شلة من الأصدقاء، في مقدمتهم الزجال علي الحداني والمطرب عبد الهادي بلخياط والممثل محمد أبو الصواب، ولامسوا في أنامله حين يعزف على العود حزنا سرمديا يتلون بأطياف قوس قزح.
كان وهبي خجولا ومتواضعا ينصت أكثر مما يتكلم، سبيله في تبليغ صوته هو عوده الذي يحمله باستمرار. دأب ممرضون على إسعاف مرضاهم بحقن الإبر ومسكنات الأسبرين وبعض من الكلام الطيب الذي يبعث الآمال في النفوس. لكنه اكتشف على طريقته ما يمكن وصفه مجازا بالعلاج عبر الموسيقى، الذي لم يكن طرق أبواب البيوت المغربية. ومثل حالات الاستعجال التي تبدأ بتسكين الألم، كان وهبي يلوذ إلى دندناته يهفهف بها على النفس العليلة.
أي فرق بين اختيار نخب اللاعبين في الفريق الوطني لكرة القدم، وبينها في رسو ألحان أغان محددة على أصوات بعينها. كتاب سيناريوهات الأفلام الكبرى يضعون في الاعتبار مشاهير الممثلين الذين سيؤدون على الأدوار. فقد صيغت مشاهد «لورانس العرب» على قياس الممثل العالمي ذي السحنة العربية عمر الشريف. ولم يكن لغير الممثلين الكبيرين أنطوني كوين وإيرين باباس أن يتفوقا في أداء أدوار شخصيات عربية تاريخية.
كذلك هي حال الأغاني، فقد وضع الملحن عبد السلام عامر أغنية «راحلة» للشاعر عبد الرفيع الجوهري على مقاس عبد الهادي بلخياط أو محمود الإدريسي، ثم فاز بها المطرب الحزين محمد الحياني الذي انطبعت صورته وحنجرته بالدفء الذي تحدثه والحزن الذي تتركه. ومع أن الفنان عبد الوهاب الدكالي غنى بدوره القصائد الشعرية، فلم يكن يزاحم آخرين في سبر أغوارها، لأنه صنع لنفسه قالبا خاصا.
مرة كتب الناقد محمد الشوفاني عن الدكالي أنه هداف بارع يسجل الإصابات، من دون أن يتعب في الجري وراء الكرة. لذا قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب إنه يعرف بألحانه التي لا تشبه أخرى. وفي كرة القدم كان اللاعب بيتشو استثناء في اختطاف الإصابات، بمجرد أن تلامس قدماه الكرة الهوائية. وفي حكاية أن مدربا أجنبيا أراد اختبار قدراته على التنفس ودقات القلب والجري لمسافات أطول، فاكتشف أنه لا يصلح لممارسة الرياضة أصلا. لكنه كان ساحرا داخل المربع. والأمر ذاته ينطبق على المطربين والممثلين والمبدعين.
صباحات الزجال علي الحداني لا تختلف، يرمي بجسده على كرسي عند سطح مقهى السفراء في شارع محمد الخامس في الرباط، ويشرع في تأمل خطوات المدينة التي تستفيق على دبيب حركة اعتيادية. كان جاء إلى الرباط ليصبح ممثلا، غادر الحي الشعبي «واندو» في فاس، ولم تغادره التعبيرات والصور التي أبدع فيها رواة فن الملحون. كان يرغب في أن تكون تجربته مغايرة لآخرين. ابتعد عن نمطية أحمد الطيب العلج، وراح يمزج بين القديم والجديد بروح تستوحي اللقطات والتعبيرات المتداولة. وعندما انتهى من وضع أغنية «جريت وجاريت» كان في ذهنه أنها ستتكامل وحنين سميرة بن سعيد التي غنت «مظلومة»، من ألحان عبد القادر الراشدي.
الظلم واحد. لكن الناس يتقبلونه إذ يصدر عن الأقدار، وليكن في حالة مرض أو إنهاك أو فقدان أحبة. قرأ قصيدته الزجلية على عبد القادر وهبي في لحظة مكاشفة وسمر، صاح وهبي بأنه وجدها، وتمنى عليه أن يكون ملحن القطعة التي بدا وكأنها صممت من أجل المطربة نعيمة سميح وليس غيرها. فهي بطبعها حزينة لا تتصنع التعبير عن حالتها. واجتمع ذاك الثلاثي للمرة الأولى في عمل فني، لم يكن بعيدا عن عالم المرض الذي يدفع الإنسان إلى التفكير في نفسه، لا مباليا بكل مباهج الحياة.
هي المرأة المظلومة التي تشتكي وجعها، استطاعت أن تخترق البيوت، حيث هناك نساء يشتكين من قسوة الأقدار. ولم يكن غريبا أن تتمثل نعيمة سميح أوضاع كل هؤلاء النساء اللواتي بادلنها التقدير بترديد كلمات ومقاطع الأغنية التي حققت أوسع انتشار لم تسبق إليه أي أغنية من قبل.
لا ينفصل ما هو شخصي عما هو عام في تجارب فنية. وحين انتشرت الأنباء التي تتحدث عن الوضع الصحي للمطربة نعيمة سميح اختلط الأمر، من قائل إنها أدت أغنية ما قبل الوداع الأخير، ومن قائلة إنها أبت إلا أن تشرك جمهورها معاناتها، وهي على ما عليه من شعبية ونجومية وتقدير.
أغنية واحدة كافية لتحقيق الانتشار، لكن الملحن عبد القادر وهبي لن يتمكن من مغادرة عالم المرض الحزين. فقد ظل ملحنا لا يخلع بدلة الممرض البيضاء. ثم تحدى نفسه، وكتب علي الحداني أغنية أقرب إلى ثنائية لها ما بعدها، همت أغنية «حتى فات الفوت» التي أسندت لمطربة شابة تدعى ماجدة. لكن القدر لم يمهلها أن تمضي على طريق أبعد. وبعد أن غنت تعيب على من جاء يسأل عنها بعد فوات الأوان، صمتت روحها للمرة الأخيرة. وبقيت حالات التشابك بين الخاص والعام من ضمن أبرز فصول تألق الأغنية المغربية.
لكن وهبي الذي طبع تلك الفترة بأقل عدد ممكن من الإبداعات المنفلتة، لم يعد يقوى على العودة إلى التلحين، أو هكذا على الأقل بدا متأثرا بالأحداث. فبعض المبدعين يتألقون دفعة واحدة، ثم يصمتون إذ يبدو لهم من العسير المشي على طريق أخرى. ومن رحم حالات الحزن التي هيمنت على فرسان الأغنيتين «جريت وجريت» و«حتى فات الفوت» كتب علي الحداني أغنيات لم تجد طريقها إلى التلحين، ولحن عبد القادر وهبي أغنيات بقيت حبيسة الصدور، وامتنعت المطربة نعيمة سميح أن تغني بغير اللهجة العامية. وعندما سافرت إلى بيروت للمشاركة في شريط سينمائي حملت معها أوجاع «جريت وجريت» التي انتشرت على نطاق واسع في العالم العربي.
لكن أين هو الآن الملحن عبد القادر وهبي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى