شوف تشوف

الرأي

اغتيال مغنية.. مرتا… مرتا… المطلوب واحد! (1/2)

بين حين وآخر تتلهى صحيفة الـ«فيغارو» الفرنسية بمزاعم إماطة اللثام عن «سرّ» ما، من «أسرار» الشرق الأوسط؛ حريصة، في كلّ مرّة، على تقديمه بطريقة دراماتيكة بوليسية، تنهج غالباً سيناريو نظريات المؤامرة، واكتشاف المخفيّ، وتركيب ما يلوح أنه عجيب غريب لا يُصدّق! ثمة، في معظم حالات هذه «الرياضة» التشويقية، صحافي واحد بعينه؛ الأمر الذي لا يُسقط عن إدارة تحرير الصحيفة مسؤولية هذا اللهو والتلهي، الذي لا تنجرّ إليه ـ إلا نادراً ـ في ملفات محلية فرنسية، أو حتى أمريكية وأوروبية.
وهكذا، في عداد «الأسرار» المفضلة لدى الصحيفة، تُعاد وتُستعاد حكايا الاغتيال السياسي، ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري بصفة خاصة؛ فتُسرد تفاصيل «جديدة»، سرعان ما يتنبه القارىء إلى أنها عتيقة مكرورة، وليس فيها من جديد حقيقي سوى تاريخ نشرها. قبل يومين فقط، خرجت الـ«فيغارو» بتقرير يقول إنّ القيادي في «حزب الله»، عماد مغنية، هو الذي اغتال الحريري، ولكن دون علم الأمين العام للحزب، حسن نصر الله؛ ولهذا، أو لإخراس القاتل، عمد ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، إلى اغتيال مغنية في قلب دمشق، بتاريخ 2 (فبراير) 2008.
الصحيفة ذاتها، ولكن في مطلع العام الماضي، نشرت تقريراً يقول إنّ المخابرات المركزية الأمريكية هي التي شاركت في اغتيال مغنية، عن طريق مدّ يد العون إلى المخابرات الإسرائيلية، الـ«موساد»؛ وأنّ القنبلة التي استُخدمت في التفجير، عن بُعد، صُنعت في أمريكا، وجُرّبت في ولاية كاليفورنيا الشمالية (وهذا الجزء من الحكاية تدين به الـ«فيغارو» لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية). أمّا في سنة 2011، فقد كانت الصحيفة الفرنسية قد جزمت بما تعود إلى الجزم فيه اليوم أيضاً (وتتناقله صحف ومواقع كثيرة على أنه جديد!): مغنية اغتال الحريري، وماهر الأسد اغتال مغنية!
والحال أنّ المنطق الأبسط في إعادة فتح ذلك الملفّ يمكن أن يبدأ من سلسلة حقائق، بسيطة بدورها، وجلية، أياً كانت مقادير التعقيد التي تكتنفها. لم يكن أمراً طبيعياً، بادىء ذي بدء، أن ينجح الاغتيال هكذا، على نحو ما جرى، في تلك البقعة من العاصمة؛ وأن تُلغّم تلك السيارة تحديداً، بتلك العبوة، في تلك الساعة، لتُجْهِز على ذلك الرجل تحديداً: الأشهر يومها في «حزب الله»، بعد نصر الله مباشرة؛ والقيادي العسكري الأبرز، الذي قد يكون احتلّ ـ قبيل أسابيع قليلة من اغتياله ـ موقع الشخصية الثانية في الحزب بعد نصر الله.
ولم يكن طبيعياً، وهو ليس كذلك اليوم أيضاً، أن تلتزم سلطات النظام السوري، ومثلها أجهزة «حزب الله» والأجهزة الإيرانية، صمتاً مطبقاً حول هوية القاتل؛ ما خلا، بالطبع، ذرّ الرماد في العيون، واعتماد سيناريوهات مماثلة لشريط أبو عدس الشهير، في واقعة اغتيال الحريري مثلاً. والمرء، في هذا الصدد، يستذكر التصريح الشهير الذي أطلقه وزير خارجية النظام، وليد المعلم، بعد ساعات قليلة أعقبت اغتيال مغنية، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع منوشهر متقي، وزير الخارجية الإيراني في حينه: «سنثبت بالدليل القاطع الجهة التي تورطت بالجريمة ومن يقف خلفها». طريف، إلى هذا، أنّ المعلّم تفادى الإشارة بوضوح إلى الخيط الإسرائيلي وراء الاغتيال (رغم أنّ نصر الله كان قد سمّى إسرائيل مباشرة)، ولكنه اعتبر أنّ اغتيال مغنية هو «اغتيال أي جهد للسلام»؛ بما يوحي ـ وإنْ على نحو سوريالي ـ إلى وجود جهة أخرى تسعى إلى نسف السلام بين إسرائيل والنظام السوري، وأنّ هذه الجهة ليست سوى… إسرائيل ذاتها! وبالفعل، كانت تركيا (سقى الله تلك الأيام من العشق المتبادل بين أنقرة والنظام!) تدير وساطة غير مباشرة، بل مفاوضات أيضاً، بين النظام وإسرائيل؛ ولعلّ المعلّم تخيّل، في سياق الانجذاب الشائع إلى نظريات المؤامرة، أنّ بعض الإسرائيليين، أو حتى بعض الأمريكيين، يريدون إفساد الطبخة!
كذلك فإنّ المطلوب، الأبسط بدوره، هو إعادة قراءة التصريحات التي نُسبت إلى أرملة مغنية، وتضمنت اتهاماً واضحاً لأجهزة الأمن السورية بالتورّط في العملية (قولها، إذا صحّ أنها القائلة: «لقد سهّل السوريون قتل زوجي»، و«رفض سوريا مشاركة محققين إيرانيين هو الدليل الدامغ على تورط نظام دمشق في قتل عماد»، فضلاً عن تلميحها إلى «الخيانة» و«الغدر»). وكان نائب وزير الخارجية الإيراني، علي رضا شيخ عطار، قد أعلن يومذاك أن تشكيل لجنة تحقيق مشتركة بين طهران ودمشق هو مطلب إيراني حاسم، وكان أيضاً رغبة من «حزب الله» وأسرة الفقيد. هيهات، بالطبع، إذْ من نافل القول إنّ أيّ تحقيق مشترك كان سيشكّل ضربة شخصية موجعة إلى اللواء شوكت، صهر آل الأسد، شخصياً؛ وإلى جهاز الاستخبارات العسكرية الذي كان يترأسه، من هرم الإدارة إلى أصغر مفرزة. والحال أنّ عرقلة تشكيل هيئة تحقيق سورية ـ إيرانية مشتركة وقفت خلفه الأسباب، ذاتها، التي منعت النظام من كشف أيّ خيط «عملياتي» ملموس، وراء واقعة الاغتيال؛ رغم مرور أسابيع وأشهر وسنوات، ورغم السخط الشديد الذي تعاظم في أوساط مناصري «حزب الله»، وما استولده الصمت من إشاعات وإشاعات مضادّة مسّت «هيبة» النظام. ولا يخفى أنّ ما تصدّر تلك الأسباب هو ذلك المحظور، القاتل: إنّ البدء من أيّ كبش فداء، صغير أو متوسط أو كبير، لا بدّ أن ينتهي إلى انكشاف مستوى أعلى، هو أدهى بكثير من افتداء الأكباش جمعاء!
والمطلوب، ثالثاً، ودون أن يستتبع هذا أيّ طراز من استبعاد المسؤولية الإسرائيلية المباشرة عن الاغتيال؛ استعادة هذه الحقيقة النوعية: قبيل اغتياله بأسابيع معدودة، تردّد أنّ مغنية ذهب بعيداً في ممارسة مهامّه الجديدة في التنسيق بين «الحرس الثوري» الإيراني وكلّ من «حزب الله» والحركات الجهادية الفلسطينية. ولعلّه ذهب أبعد ممّا هو مسموح به، وتحديداً في خرق «اتفاق الشرف» المبرم مع السلطات السورية، والذي تضمّن إطلاع جهاز الاستخبارات العسكرية السورية، ورئيسه اللواء شوكت شخصياً، على كلّ صغيرة وكبيرة في ذلك التنسيق. يُضاف إلى هذا أنّه ـ إذا اتضحت ذات يوم مسؤولية الأجهزة الأمنية السورية عن اغتيال الحريري، وانكشفت طبيعة العون اللوجستي الذي قد تكون قدّمته أطراف لبنانية، بينها أجهزة «حزب الله» الأمنية ـ فإنّ مغنية كان سينقلب إلى واحد من أبرز الشهود. وهنا قد يبدو وكأنّ شغف الـ«فيغارو» بنظرية اغتيال مغنية على يد ماهر الأسد، يكتسب بعض المصداقية؛ خاصة إذا نُصح الصحافي الفرنسي اللوذعي بالربط بين اغتيال مغنية، واغتيال العميد محمد سليمان، في (غشت) من العام ذاته.
ومن المعروف أنّ سليمان كان أحد أفراد الحلقة الضيقة المقربة من بشار الأسد، وأحد أبرز مستشاريه في ملفات واسعة النطاق، كانت تبدأ من خيارات فنية محضة تخص تسليح وإعادة تحديث أسلحة الجيش السوري، ولكنها اشتملت أيضاً على قضايا أمنية ذات حساسية عالية. ولم يكن غريباً، والحال هذه، أن تقفز في تأويل تصفيته عناوين مثل اغتيال مغنية، أو قصف مشروع المفاعل النووي قرب دير الزور، أو العلاقات السرية مع أجهزة استخبارات إقليمية وعالمية، أو حتى اغتيال الحريري…
وكما في أمثولة يسوع مع شقيقة لعازر، لوقا 10/38.42: مرتا، مرتا، أنت تهتمّين بأمور كثيرة، والمطلوب واحد! والمطلوب الأبسط، في ملفّ اغتيال مغنية، واحد جوهرياً؛ رغم تشعّب مستوياته وأسبابه ومنابعه.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى