الرأي

الأمراض الجنسية (2/2)

انفجر المرض مروعا بما حمله الجنود المرتزقة حيث مشوا، وبعد خمس سنوات من هذه الحملة في عام 1498م قضى الملك كارل الثامن نحبه عن عمر يناهز (28) بهذا المرض الجديد الذي أخذ اسم (الزهري) لأول مرة في التاريخ.
وابتدأت بعدها رحلة معاناة رهيبة لهذا المرض، الذي لم يترك شريحة اجتماعية إلا وأصابها بشكل متفاوت، في ظل انعدام العناية الصحية، ومعرفة كيفية انتشار الأمراض، وتخلف الطب.
كل هذا ترافق مع الإباحية الجنسية؛ فحيث العربدة والخيانة الزوجية تفشى المرض، وحيث النظافة الأخلاقية والعائلات المتماسكة عف عنها وابتعد، وبقي المرض يقوم بهجمات منتظمة طوال أربعة قرون، فأصيب به الباباوات مثل العاهرات، مثل (ألكسندر السادس) و(يوليوس الثاني) و(ليو العاشر) ونظراً لانتقاله عبر المشيمة فقد ترتب عليه تحولات تاريخية، كما هو في ملك بريطانيا (هنري الثامن) الذي فقدت زوجته الأسبانية (ماريا) أربعة أطفال من الذكور؛ فعزم على الزواج من امرأة أخرى، وهو ما لم تسمح به الكنيسة الكاثوليكية؛ فقام بنقل المذهب البروتستانتي إلى بريطانيا؛ فكان مرض الإفرنجي خلف التحول الديني في بريطانيا، بل والقاعدة الصناعية لاحقا، على ما حرره فيلسوف الاجتماع (ماكس فيبر) الذي ربط بين الانطلاقة الصناعية في أوروبا وانتشار المذهب البروتستانتي في كتابه (روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية)، باعتبار وجود مقومات عقلية خاصة في الوسط البروتستانتي، من روح المبادرة والجانب العملي من تقدير العمل والكسب؛ فالأمراض بهذا تصنع التاريخ.
وإذا كان مرض الإفرنجي ينتقل في الرحم عبر المشيمة فيؤدي إلى الإسقاطات فموت الأجنة، فإنه يحمل المرض بصورة خفية في الدماغ لينفجر بشكل لاحق بعد عشرات السنوات، كما في جنون فيلسوف القوة الألماني (نيتشه) صاحب كتاب (هكذا تكلم زرادشت) صاحب مبدأ العود الأبدي، فقد حمل الرجل من أمه هذا المرض لينفجر فيه فيدمر دماغه.
إننا نحزن عندما نسمع عن صمم الموسيقار بيتهوفن بسبب إصابته أيضاً بهذا المرض، وعشرات شتى من المفكرين والرسامين والمبدعين والفلاسفة كلهم أصابهم المرض فدمرهم أو أقعدهم، مثل الرسام (ريتل) والشاعر (هاينه) والفيلسوف (إيراسموس) صاحب المدرسة الإنسانية، و(ايميل زولا) و(فلاوبرت)، بل وأصاب ملوكاً مثل (فرانسوا الأول) ملك فرنسا، و(كريستيان السابع) ملك الدانمرك، وقيصر روسيا (إيفان الرهيب).
وفي أيامنا افترس الأيدز فيلسوف الحداثة الفرنسي (ميشيل فوكو) الذي قضى نحبه في وقت مبكر عن عمر لا يتجاوز الخمسين بمرض الإيدز. كان الرجل ينادى بعصر ما بعد الحداثة، ولكنه كان يذهب إلى أمريكا ليمارس اللواط ويفرغ احتقانه الجنسي؛ فنال منه الإيدز فقتله بدون رحمة.
بين عامي 1493م و1928م مضت أكثر من أربعة قرون قبل التمكن من كشف اللثام عن طبيعة مرض الإفرنجي (مقارنة بالإيدز في أربع سنين) والسيطرة عليه.
وتم استخدام عشرات الأدوية بدون فائدة تذكر، ولم يترك من شيء معقول أو غير معقول إلا واستخدم، ووجدوا أن أفضل طريقة لتفسير المرض هو اتهام الهواء أو النجوم والأبراج، حتى تمت القفزة النوعية العلمية مع مطلع القرن العشرين سواء في التشخيص أو العلاج، ونظراً لأن جرثومة المرض تنتقل عن طريق الشرايين فإنها لا تترك جهازاً نبيلاً إلا وتعطبه؛ فهي تعمل الصمغ (شبيه الورم) في الدماغ، والنخر في العظام؛ فتسبب الجنون العام في الأول، والآلام الليلية المبرحة في الثاني، والتقرحات في الأعضاء التناسلية، إلى سلسلة من الإصابات المنوعة والاضطرابات الوظيفية، إلى درجة أن سقوط الشعر وبثرات العنق والوجه، هي التي طورت الملابس الخاصة في قصر فرساي بين الطبقة النبيلة التي كانت تغطي الرأس بالشعر المستعار أو القبعة العالية.
في عامي 1904 ميلادي و1906 م حصل تطوران رائعان بالتتالي على يد كل من العالم النباتي (فريتز شاودين) و(فاسرمان = رجل الماء) حيث كشف الأول عن المتسبب في أحداث المرض، والثاني استطاع أن يضبط بتفاعلات خاصة للدم، عن إصابة الإنسان السابقة، وحمله للمرض (كما في ألايسا للإيدز) حيث ظهرت جرثومة المرض تحت المجهر، كأنها الخيط الطويل الملتوي، أو الأفعى، هشة ضعيفة ولكنها خبيثة ممرضة (اللولبية الشاحبة Treponema Pallidum) هي كائن جرثومي أعلى من فصيلة الباكتريا حيث وجد أن العناصر الإمراضية تندرج من الفيروسات وتنهي بالكائنات العليا من الفطر والحشرات).
وبتفاعل (واسرمان) أصبح التفاعل الإيجابي يعني الفضيحة الجنسية لحامله وممارسة الحرام.
وفي ميدان العلاج حصلت ثلاثة تطورات رائعة، الأولى دشنها العالم (باول إيلريش) حيث قام بما يزيد عن (600) تجربة على الأصبغة حتى وصل إلى مركب خاص في المحاولة (606) ومعها جاء الفرج، فوجدها تقضي على الجرثومة كما تفعل (الرصاصة القاتلة).
واكتشف الطبيب (يوليوس فاجنر) النمساوي ظاهرة ملفتة للنظر، بتراجع ظاهرة المرض، مع تعرض المريض لحرارة عالية؛ فإذا أصيب المريض بمرض آخر، وارتفعت درجة حرارة المريض تعافى وتحسن من مرض الزهري (الإفرنجي) فانقدحت في ذهنه فكرة جريئة، مفادها إشعال وقود صناعي داخل الجسم، بإحداث نوبات حرارية متلاحقة، بتعريض المريض لمرض (الملاريا) مثلاً؛ فالملاريا تقوم بنوبات حرارية مجنونة في البدن، فلعلها بهذا الحريق الداخلي، تحرق مرض الإفرنجي الفظيع؛ فإذا تعافى من الإفرنجي أمكن معالجة الملاريا بمواد (الكينا) بعد ذلك.
لقد نال الدكتور فاجنر جائزة نوبل فيما بعد على أبحاثه الجريئة هذه، قبل أن يصل (فليمنغ) إلى الضربة النهائية التي طوت صفحة مرض الزهري باكتشاف المضاد الحيوي البنسلين، الذي هو بدوره (عفن).
وهكذا سلط فلمنغ (العفن) على (العفن) فنجا (البدن)، وهي قصة شيقة في محاولة الإنسان الدائبة للقضاء على المرض، ولكن قصة الإيدز هي فصل نوعي جديد في تطور الآليات الإمراضية؛ فجرثومة المرض هنا هي أدنى طبقات العناصر الإمراضية أي (الفيروسات) اللعوبة القلوبة التي تتحد مع الكود الوراثي فينتجها البدن وهو لا يعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى