الرئيسية

التعاقد الذي نُريد

يونس جنوحي

في الوقت الذي يعيش الأساتذة المتعاقدون أزمة وجودية حقيقية مع الدولة، نقرأ عن مبادرات إنشاء مدارس القرب المتنقلة وتطوع المعلمين لخوض رحلات على الأقدام لإيصال المدارس إلى قرويين يعيشون البداوة.. في الهند. بينما عندنا تتهم أطراف تدافع عن الحكومة الأساتذة بالتخلي عن تدريس سكان المناطق المعزولة، رغم أن أرقام السنة الماضية تقول إن أقل نسبة غياب في سلك الوظيفة العمومية كانت من نصيب أسرة التعليم، وهو الأمر الذي يستحق التنويه في ظل الظروف المزرية التي يزاول فيها هؤلاء مهامهم التربوية.
في المغرب لدينا أساتذة دفنوا طموحهم وأعمارهم وقضوا بين الجبال سنوات محترمة في انتظار الترقية التي لا تأتي. بعضهم كانوا يقتلون الوقت قبل زمن الأنترنت في المطالعة أو مراسلة الصفحة الثقافية لجرائد الأحزاب وتصحيح الامتحانات ومتابعة البرنامج الثقافي في راديو BBC، ولم لا تشجيع بعض التلاميذ على الكتابة في سن مبكرة.
عندما تطالع مشاكل التعليم وتتأمل كيف أنه أصبح ممكنا مشاهدة ما يقع داخل الأقسام من انفلاتات، لا يمكن إلا التساؤل عن سبب انقراض تلك العينات من المعلمين الذين يحتفظ لهم كل واحد منا بذكرى طيبة لا تخلو من بعض «العنف» الذي يعود لسنوات أقلام الرصاص.
ورغم أن مسؤولين حزبيين وحكوميين مروا من مهنة التعليم ومنهم من خانها ليرتمي في أحضان الريع السياسي والحزبي، إلا أنه لا أحد يحاول اليوم جديا فهم ما وقع.
الاستقلاليون ارتأوا أن يمضغوا أسطوانة التعريب في الوقت الذي يبعثون أبناءهم إلى الخارج، وهذا حقهم طبعا. لكن ليس من حقهم أن يضحكوا على ذكائنا الجماعي الذي كوناه مع الطباشير والحفر المتفرقة في السبورات التي تحول لونها إلى رمادي محزن بدل السواد الأنيق الذي علم ملايين المغاربة الرهبة من الإدارة. كل شيء بدأ في المدرسة ولا أحد يعلم كيف انتهى.
يناضل شبان اليوم من أجل تسوية وضعهم الإداري مع الدولة، ولا أحد أثار نقاش جودة التعليم. لم نسمع يوما عن تنسيقية من رجال التعليم تسائل الدولة بخصوص رداءة المقرر في عدد من المستويات. لم نسمع يوما عن بادرة قادها رجل تعليم حاول من خلالها تقديم تقييم شخصي لنجاعة المقرر الدراسي. أكثر ما نجح فيه أعداء المدرسة العمومية هو تضبيع التلاميذ وتعطيل الحس التربوي لدى الآلاف. لا نتحدث طبعا عن الفلتات التي تظهر من حين لآخر وتحاول الجهات الرسمية الركوب عليها دفاعا عن المدرسة العمومية، في وقت يرسلون أبناءهم إلى الخارج.
ليس الوقت مناسبا لإثارة مسألة التعريب أو الفرنسة، نحن في زمن وجب أولا البحث عن كرامة ملايين الأسر المغربية التي ترسل أبناءها كل صباح إلى المدرسة العمومية دون أن تظهر لهم أية علامات انفراج في الأفق.
يثير الذين نزلوا إلى الشوارع مسألة الكرامة. فمن حق الجميع أن يمارس حقه في الإضراب، والأزمة التي تسببت فيها حكومتان متتاليتان في حقل التعليم لا يمكن أن تُطوى هكذا ببساطة.. نحن في واقع يكذب كل الأرقام المتفائلة ما دامت الدولة غير قادرة سنويا على فتح مناصب مالية في وجه الخريجين.
يستحيل طبعا أن يُدمج الجميع في التعليم، لكن يتعين على الدولة أن تستثمر في الخريجين وتستثمر أكثر في تكوينهم. هذا هو الحل الوحيد لتنتهي مهزلة التعاقد، وينتهي البؤس الذي أوصلنا إلى زمن يرتكب فيه الأساتذة أخطاء التلاميذ. وهذا هو التعاقد الذي يجب أن يكون..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى