سري للغاية

الجابري: «لهذه الأسباب طرح الاتحاد الوطني قضية الدستور بعد أربع سنوات من استقلال المغرب»

1ـ لغة واضحة لا غموض فيها ولا التباس..
وانطلقت حملة التوعية والتوضيح في الرأي العام حول موضوع المجلس التأسيسي: مقالات متسلسلة وتعاليق في الأركان الدائمة. منها هذا التعليق الذي كتبته في ركن «بالعربي الفصيح» يوم 5 أبريل 1960.

يقول التعليق:

«لعل أهم ما يميز الحركات التحريرية السياسية الأصيلة أنها نضالية في أهدافها وأسلوبها وطريقة عملها للوصول إلى هذه الأهداف، وأنها لا تعتمد في نضاليتها هذه وتحديد فعالية هذا النضال إلا على الجماهير الشعبية وعليها وحدها، وأنها لا تتخلف قط في قراراتها ومشاريعها على مستوى الأحداث في البلاد لأنها إذا تخلفت ولو قليلا أصبحت متخلفة عن التيار الشعبي الجماهيري، ومن ثم أصبحت غير نضالية ولا تحررية بالمفهوم الحقيقي لهاتين الكلمتين.

ومما يميز هذه الحركات التحريرية الأصيلة أنها واضحة في أسلوبها وأهدافها وأن طريقها واضح كل الوضوح. فهي تنادي بالوضوح كما أنها تعمل وتطالب بالوضوح. ذلك أن أساس هذه الحركات التحريرية السياسية هي القاعدة الشعبية وجماهير الشعب. وقد بينت التجارب أن هذه القاعدة وهذه الجماهير لا تنقاد ولا تتكتل إلا في جو من الوضوح التام: وضوح في الأهداف ووضوح في وسائل تحقيق هذه الأهداف. ذلك أن الوضوح وحده هو الذي يجعل الجماهير تطمئن، ويجعلها تدرك إدراكا كاملا ما إذا كانت شعارات وبرامج هذه الحركة أو تلك تعبر تمام التعبير عن أهدافها وآمالها، وما إذا كانت وسائل تحقيق هذه الأهداف وسائل فعالة مضمونة النجاح أم لا.

إن من طبيعة الجماهير الشعبية أنها واضحة في تفكيرها وأهدافها وأنها لا تخشى ولا تخالف، لأن تفكيرها وأهدافها مستمدان من الواقع الذي تعيشه هذه الجماهير والذي تلمسه أكثر من غيرها. ونضالها في الحقيقة هو دائما نضال مع الواقع، أي نضال لتحسين الأوضاع.

ومن طبيعة القوى التقدمية التحريرية أنها تعبر أصدق تعبير عن أهداف الجماهير وترشدها إلى الوسائل الفعالة الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف. وما هذه الوسائل في الحقيقة إلا تنظيم القوى الشعبية وتكتيلها وتوجيهها توجيها هو في الحقيقة تجسيم وبلورة لاتجاه الرأي العام الشعبي.

هذه حقائق ثابتة زادها ثبوتا تسلسل الأحداث التاريخية في كل مكان وفي كل زمان. وقد تمشى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من أول يوم من تأسيسه، طبقا لهذه الحقائق التاريخية سواء في ما يتعلق بتنظيمه أو ديمقراطيته أو أهدافه وأسلوبه لتحقيق هذه الأهداف. والاتحاد الوطني وصحافته كان ولا يزال من أول يوم واضحا في ما يقول وفي ما يتخذه من قرارات وما يتخذه من ملتمسات.

والاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو اليوم حينما يصرح بأن تجربة الأربع سنوات الماضية قد برهنت على ضرورة «انتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي متحرر، يعتبر الشعب مصدر السلطات ويضع حدا للتعفن والفساد، كما يضمن لجميع المواطنين حرياتهم الأساسية دون اعتبار للفروق العقائدية والعنصرية»، الاتحاد الوطني حينما يصرح بهذا لا يأتي بالشيء الجديد وإنما ينسجم مع نفسه ومع إحساساته وشعور جماهير الشعب، ويترجم هذا الإحساس والشعور بلغة واضحة لا غموض فيها ولا التباس. ووضوح لغة الاتحاد الوطني وأمانته الكاملة ترجمة لإحساسات وشعور الشعب واستعداده لخوض أية معركة قد يستلزمها هذا الوضوح وهذه الترجمة الأمينة، كل ذلك جعل منه منظمة تحريرية سياسية جماهيرية جديرة باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية».

2ـ لماذا المطالبة بمجلس تأسيسي لوضع الدستور؟

في عدد 6 أبريل 1960 كتبت في نفس الركن التعليق التالي:

يقول التعليق:

«أهم قرارات المجلس الوطني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المطالبة بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي متحرر للبلاد. ولعل بعض القراء يتساءلون عن الدوافع والأسباب التي جعلت المجلس الوطني للاتحاد يطالب في هذه الفترة بالدستور. والواقع أن مثل هذا التساؤل في محله، خصوصا إذا صدر ممن لا يتتبع الأحداث عن كثب ولا يتعمق في مصدر هذه الأحداث.
والحقيقة أن الاتحاد الوطني لا يطرح الشعارات من أجل التلهي بها أو خداع الناس بما تنطوي عليه. إن الاتحاد الوطني لا يطرح شعارا من الشعارات إلا إذا رأى ضرورة طرح هذا الشعار، وإلا إذا رأى أن الجماهير تحس إحساسا عميقا بضرورة طرح هذا الشعار. والاتحاد الوطني حين يطرح شعارا من الشعارات لا يفعل ذلك من أجل الدعاية أو لذر الرماد في عيون الشعب، وإنما يطرحه وهو مؤمن أنه سيبدأ فورا في خوض معركة هذا الشعار وتجنيد الجماهير لخوض هذه المعركة لتحقيقه على النحو الذي يفهمه الشعب. فقد طرح من قبل شعار التحرر الاقتصادي وخاض معركة هذا التحرر حتى أصبح اليوم يأتي بنتائجه، وطرح شعار الجلاء وجند الشعب للمطالبة بالجلاء حتى أصبحت قضية الجلاء اليوم موضوعة في إطارها العملي الحقيقي. واليوم حينما يطرح شعار الدستور يعلم سلفا أن عليه أن يخوض المعركة لتحقيق الدستور على النحو الذي أعلن عنه وهو الذي يريده الشعب.

أما لماذا طرح الاتحاد الوطني قضية الدستور في هذا الوقت بالذات، فذلك ما تدركه جماهير الاتحاد وذلك ما سنحاول الجواب عنه في هذا الركن بإيجاز.

لقد مر على المغرب أربع سنوات من الاستقلال، أربع سنوات كلها تجارب وكلها تساؤلات عما إذا كنا حقيقة حصلنا على الاستقلال. أربع سنوات بقيت أثناءها الإدارة فاسدة، وبقيت كلمة «التطهير» كلمة جوفاء خالية من كل دلالة عملية. لقد طالب الشعب مرارا وتكرارا بالتطهير وطالب بإصلاح الجهاز الإداري وتطهيره من العناصر الفاسدة المتحيزة. ثم طالب الشعب مرارا بتحديد المسؤوليات تحديدا يضمن سير مصالح الدولة في انسجام وتكامل.

وشن الاتحاد الوطني حملة صحفية من أجل التطهير وإصلاح الجهاز الإداري وكشف في حملته عن التناقض الملموس في أجهزة الدولة وشهر بالفساد الإداري، ولكن هذه الحملة قد كشفت للشعب ولجميع الناس حتى في الخارج حقيقة هذا الفساد، وحقيقة هذا التناقض، فقد أوقفت بسبب ذلك جريدة «التحرير» واعتقل مديرها وهو لا يزال في السجن واعتقل رئيس تحريرها وأطلق سراحه مؤقتا نظرا لحالته الصحية. ثم لم تقف الأمور عند هذا الحد، فحيكت مؤامرة ضد عناصر وطنية تحررية ممن لهم ماض مجيد وأدخلوا الزنازين وعذبوا نتيجة هذه المؤامرة.

هذا في الوقت الذي توجد فيه بالبلاد حكومة وطنية، بها عناصر لا يشك أحد من أفراد جماهير الشعب في نيتها الحسنة وفي إرادتها القوية من أجل بناء الاستقلال، حكومة وطنية تتمتع بثقة صاحب الجلالة وتعمل في تفاهم تام مع جلالته لبناء المستقبل المنشود.

ولكن رغم هذا كله فإن التجارب التي مرت بها البلاد طيلة الفترة التي تلت الإعلان عن الاستقلال والتي تبلورت نتائجها في هذه الشهور الأخيرة، قد بينت أن جميع المحاولات التي بذلت, سواء على الصعيد الرسمي, أو الشعبي لإصلاح الأمور بهذه البلاد هي محاولات كلها باءت بالفشل ولم تأت بأية نتيجة. فالفساد يزداد وينتشر في كل مكان، وتصرفات الشرطة تزداد تعسفا واستفزازا للمواطنين، وأصبح الوضع في البلاد ثقيلا يثقل كاهل المواطنين, خصوصا الضعفاء منهم، بل بلغ الأمر أكثر من ذلك إلى درجة أصبحت الصحف الأجنبية على اختلاف نزعاتها تتحدث عن «أزمة الحكومة» في المغرب، وذهب بعضها إلى درجة وصف المغرب بأنه البلاد التي توجد فيها «حكومتان متناقضتان، حكومة رسمية وحكومة أخرى مناقضة لها تعمل في الخفاء».

هذا ما وصلت إليه بلادنا وقد شعر المواطنون بهذه المأساة، مأساة وطننا واستقلالنا وأدركوا أن وجود نية حسنة وإرادة قوية سليمة لبعض رجال الحكم شيء لا يكفي ولا يستطيع إصلاح الأوضاع. لقد أدركت الجماهير أن الأوضاع يجب أن يدخلها إصلاح من الأساس وأنه ما بقيت البلاد في هذه الحالة فإنها لن تأمن المؤامرات السياسية، وأنه وإن حدث أن فشلت المؤامرات القائمة الآن ضد الأحرار وأنه وإن قبع المتآمرون اليوم أو غدا في مخابئهم، فإنه لا شيء يضمن عدم قيام مؤامرات أخرى أو متآمرين آخرين، ولذلك يجب إصلاح الأوضاع من الأساس، ولذلك يجب انتخاب مجلس تأسيسي فورا ليضع دستورا متحررا ديمقراطيا يعتبر الشعب مصدر السلطات.

هذا ما أدركته الجماهير الشعبية وهذا ما أعلن عنه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي يعتمد في قوته وفي معاركه على الجماهير الشعبية المناضلة. والاتحاد الوطني الذي يدرك، بفضل شعبيته وجماهيريته، أن الشعب كفؤ لاختيار نواب عنه لوضع الدستور قد أعلن عن هذا المطلب الملح وطرح هذا الشعار وهو مستعد لخوض المعركة إذا كان لابد من معركة في هذا الميدان».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى