سري للغاية

الجابري: «هكذا أصبح الجهاز الإداري بمثابة «حكومة سرية» تعمل ضد حكومة عبد الله إبراهيم»

الفصل التاسع

اشتداد الصراع.. وإقالة الحكومة وتشكيل أخرى من أقطاب «القوة الثالثة»

أولا: تجدد الحملة… والتنديد بـ«الفساد الإداري»
كان من الطبيعي أن تشتد حملة خصوم التحرر الاقتصادي على الحكومة والقوات الشعبية، بعد أن فصل الملك الراحل محمد الخامس في الأمر لصالح التدابير الاقتصادية التحررية التي كانت موضوع المعركة. كان ذلك يوم 16 أكتوبر 1959، حين وافق المجلس الوزاري برئاسة جلالته على تلك القرارات الاقتصادية التاريخية (الفصل السابق). وبعد ذلك مباشرة قرر خصوم التحرر ضرب القوات الشعبية التي تستمد منها الحكومة السند والتأييد، وذلك بحبك مؤامرة تستهدف فصل الملك الراحل محمد الخامس عن هذه القوات وقص أجنحة الاتحاد.
وكانت القوة التي استهدفت أولا هي جريدة «التحرير» ورجال المقاومة، باعتبار أن «التحرير» كانت السيف القاطع الذي لم يتوان في فضح خصوم التحرر، والعلاقة بين «التحرير» والمقاومة واضحة، فمحمد البصري مدير هذه الجريدة وعبد الرحمان اليوسفي كانا على رأس «جمعية المقاومة وجيش التحرير» التي كانت من أهم القوات الشعبية في الاتحاد الوطني. ولذلك اتجه خصوم التحرر إلى الكيد لـ«التحرير» ومديرها ورئيس تحريرها، مع ما تلا ذلك من قمع شامل لرجال المقاومة، وهو القمع الذي طال الاتحاد الوطني ككل في مؤامرة 16 يوليوز 1963. لقد اعتقل البصري واليوسفي وأوقفت «التحرير» أولا، ولم يفت ذلك من عضد القوات الشعبية فقد استمرت «التحرير» تؤدي رسالتها من خلال «الرأي العام»، كما شرحنا ذلك في فصل سابق.
هناك جانب واجهة أخرى استعملها خصوم التحرر لعرقلة أداء الحكومة والتضييق على القوات الشعبية، واجهة الجهاز الإداري. وهكذا أخذت تصرفات الإدارة تتناقض تماما مع قرارات الحكومات وتوجهاتها، حتى غدا الجميع يدرك أن هناك حكومتان حكومة عبد الله إبراهيم وحكومة أخرى «سرية» معارضة. وكانت «التحرير» قد بادرت إلى التشهير بالفساد الإداري، وفضح الجهات التي أرادت أن تجعل من «الإدارة» أداة معرقلة لعمل الحكومة. ثم واصلت «الرأي العام» المهمة نفسها. وبما أن هذه المذكرات ذات طابع شخصي، فسنقتصر على نماذج من النصوص التي نشرها كاتب هذه السطور في ركن «صباح النور» بـ«التحرير»، وركن «بالعربي الفصيح» الذي خلفه في «الرأي العام».

بعد خمسة أيام فقط من صدور «التحرير» خصصت ركن «صباح النور»، عدد يوم 7 أبريل 1959، لنقل مطالب الجماهير الشعبية التي استمعت إليها في المهرجان الذي أطرته، والذي نظمته الجامعات المتحدة في سينما «شهرزاد» قبل ذلك بيومين.

يقول التعليق:
«إن كل الذين شهدوا المهرجانات التي أقامتها الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، أول أمس، بمختلف أقاليم البلاد يجمعون على أن الجماهير الشعبية تلح إلحاحا وتصر إصرارا على ضرورة تطهير الجهاز الإداري في الدولة من الفساد، الذي تسرب إليه واستشرى فيه نتيجة ما أصاب الحكومات السابقة من الانحلال والعجز والتواكل، طيلة السنين الثلاث الماضية. إن كل من شهد هذه المهرجانات يتفقون جميعا على القول إن الجماهير الشعبية قد استرجعت قوتها وحيويتها، وإنها مستعدة الآن استعدادا كاملا لتقوم بواجبها الوطني أحسن قيام، ولكنها تتذمر وتشتكي من بعض الموظفين الذين يستغلون وظائفهم، التي ائتمنوا عليها، إما لقضاء مآربهم الشخصية، وإما لإرضاء ميولاتهم السياسية ونزعاتهم الحزبية.
والحقيقة أن الجهاز الإداري بمختلف فروعه يستدعي مراجعة شاملة من لدن الحكومة، ويتطلب إبعاد العناصر المتحيزة منه وإقصاء الموظفين المهمِلين الذين لا يشعرون بالمسؤولية ولا بالأمانة التي يتحملونها.

والغريب في الأمر أن كثيرا من الخونة وأعوان الاستعمار الذين كانوا يشغلون وظائف في الدولة أيام الحماية ويستغلونها لمصلحتهم الشخصية ولفائدة أسيادهم المستعمرين، أن كثيرا من هؤلاء ممن بقوا وما زالوا في وظائفهم يقومون بالدور نفسه الذي قاموا به بالأمس. بل إن الأغرب من هذا هو أن بعض هؤلاء قد ارتقوا درجات في وظائفهم، ما كان يحلموا بها من قبل، وأصبحوا اليوم يتصرفون في بعض مقدرات الدولة تصرف من لا يهمه شيء إلا مصلحته الذاتية.

ألا فلتجعل الحكومة حدا لهذا الفساد، ألا فلتعجل بتطهير الإدارات، فإن ما يقاسيه الشعب من ذلك الفساد ومن هذا اللاتطهير شيء كبير، والله».

التوقيع: عصام

وفي موضوع التناقض بين سياسة الحكومة وسلوك الإدارة كتبت التعليق التالي في «التحرير» بركن «صباح النور» لعدد يوم نونبر 1959، أي قبل أزيد من شهر من تاريخ انعقاد المجلس الوطني للاتحاد، الذي سيطرح رسميا مسألة الفساد الإداري والتناقض بين الإدارة والحكومة، كما شرحنا سابقا.

يقول التعليق:
«هناك في المغرب تناقضات كثيرة في الحياة العامة، وهناك تناقض أكبر في الميدان الرسمي. فرغم أن البلاد ليس فيها قوة للمعارضة تستحق التقدير والاهتمام، بل حتى الذكر، إذ الشعب كله يؤيد ويناصر بكل قوته حكومة صاحب الجلالة في مشاريعها البناءة وبرامجها لتحرير المغرب سياسيا واقتصاديا وعسكريا، إلا أن هناك معارضة فعلية «رسمية» وغير قانونية. وليس هذه المعارضة «الرسمية» غير الإدارات وبعض المصالح الحكومية. ففي المغرب اليوم حكومة شعبية تبني وتشيد في انسجام تام مع رئيس الدول صاحب الجلالة، وفي المغرب اليوم إدارات ومصالح حكومية تهدم ما تبنيه الحكومة وتتصرف بأمرها تصرف الحاكم المطلق. وبعبارة أخرى هناك الحكومة في واد وهناك الإدارة والمصالح الحكومية في واد آخر. وهذا لا يعني طبعا أن جميع الإدارات والمصالح الحكومية ضد الحكومة، ولكن بعض الإدارات أصبحت بتصرفها وطغيانها تطغى على الإدارات والمصالح الحكومية الأخرى. وإذا نظرنا إلى الشعب نراه بقدر ما إن اتضحت بلاده وشؤونها في ذهنه في عهد حكومة عبد الله إبراهيم، بقدر ما يشتكي من تصرفات الإدارات وطغيانها، وهو في هذا حائر أشد الحيرة أمام حكومة وطنية بناءة تسعى بكل جهدها إلى بناء البلاد وتحريرها، وأمامه بعض الإدارات المفروض فيها أنها خاضعة للحكومة، يقاسي منها آلاما وآلاما.

هذا التناقض الكبير والموجود بين القيادة الحكومية وبين الإدارات، هو نقطة الاستفهام العريضة التي تقف أمام كل من يتأمل الأوضاع في هذه البلاد. وإذ نحن أردنا تعليل هذه الظاهرة الغريبة وهذا التناقض الواضح، قلنا إن النظام الإداري الموجود في بلادنا، هو نظام ورث جميع أنواع الفساد التي كانت موجودة في إدارة الحماية، ثم زاد فسادا على فساد. ففي أيام الحماية كانت الإدارة أشبه بالإقطاعيات: كان حاكم الناحية يتصرف في ناحيته حسب هواه، وكان الحاكم المركزي يحكم في المركز الذي تسلط عليه حكما مطلقا، لا من حسيب ولا من رقيب. وفي أيام الاستقلال بقي الأمر كما كان عليه من قبل. بل ازدادت هذه الإقطاعيات الإدارية توسعا واستفحالا، وأصبح الانسجام بين القيادة الحاكمة وبين بعض الإدارات منعدما، فبدلا من أن تكون الإدارة قنوات تنساب فيها أوامر وبرامج القيادة الحاكمة والحكومة والمصالح العليا، بدلا من ذلك أصبحت الإدارة، أو بعضها على الأقل قنوات محدودة ليس لها أي اتصال وثيق ولا انسجام فعلي مع القيادة الحاكمة، وهذا ما جعل أعمال الحكومة متعطلة ومتأخرة في الميدان الداخلي، رغم كبر أعمالها وسعة برامجها في الميادين العامة التي لا يتوقف إنجازها على هذه الإقطاعيات الإدارية. ومعلوم أن هذا النظام الإقطاعي في الإدارات، هو الذي يعنيه الشعب عندما يشتكي من الفساد الإداري.

من كل ما تقدم نرى أن البرامج التي اختطتها الحكومة، أو تنوي تخطيطها في المستقبل لا يمكن أن تنفذ وتطبق على الوجه الأكمل، إلا إذا قضي تماما على هذا النظام الإقطاعي الإداري، إلا إذا أصبحت مختلف الإدارات، كبيرها وصغيرها، قنوات «مسرحية» وأدوات فعالة طيعة في يد الحكومة، تأتمر بأمرها وتتصرف حسب تعليماتها. والقضاء على هذه الإقطاعيات الإدارية هو رأس كل إصلاح في البلاد. أما ما دامت الإدارة في واد والحكومة ومشاريعها وبرامجها في واد، فإن أي إصلاح لا يمكن أن يتم في البلاد على الوجه الأكمل. فإصلاح الجهاز الإداري ضرورة وطنية عليها يتوقف كل إصلاح.

بقي سؤال آخر، وربما كان هذا السؤال هو أهم شيء في هذا الموضوع نظرا لأن الجواب عنه يفسر كثيرا من الغموض، هذا السؤال هو: «لماذا لا تقتضي الحكومة على هذه الإقطاعيات الإدارية؟ ولماذا لا تصلح هذا الجهاز الإداري الفاسد؟ سؤال «ما قدرتش نجاوب عليه»، كما يقول المغني».
التوقيع: عصام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى