سري للغاية

الجابري: «هيئات مزيفة استغلت اسم المقاومة وضيعت عائلات وأبناء الشهداء»

حين التجأ الشعب إلى الكفاح المسلح، تبلورت المقاومة المغربية وبدأت تأخذ شكلها الطبيعي وتستكمل عناصرها الثورية.
طبيعي أن يصدم الشعب صدمة عنيفة بما فيه الطليعة الواعية يوم 20 غشت 1953، وطبيعي أيضا أن تكون هذه الصدمة رجة عنيفة أطاحت بكل القيم الواهية والاعتبارات الفارغة من سياسية وغيرها لتفسح المجال واسعا للمقاومة الجدية الفعالة المتشبعة بروح ثورية وبفكرة قوية تتضاءل بل تنعدم أمامها جميع العناصر الناقصة. ولقد كانت الفكرة السائدة المسيطرة غداة 20 غشت فكرة ثورية هدفها تحرير البلاد وتكسير القيود بعنف وصلابة وقوة. وبقدر ما كانت الصدمة فجائية بقدر ما اتجه الكفاح نحو المطلب المهم المستعجل المتمثل في الاعتراف بالاستقلال وإعادة الملك إلى عرشه. وركزت المقاومة المغربية كل جهدها، وجند الشعب كل إمكانياته في سبيل هذا المطلب المستعجل، الأمر الذي جعل الناس يغفلون، وربما عن غير قصد، المطالب الأخرى غير الآنية التي هي في حقيقة الأمر الهدف الحقيقي من الكفاح والباعث الأساسي لفكرة المقاومة.
وما أن تحقق المطلب الأول: الاستقلال وعودة الملك، وما أن مرت فترة استراحة ممزوجة بنشوة النصر الخلاب حتى ظهر للناس جميعا، الحاملين منهم للسلاح والمناصرين المؤيدين لهؤلاء، أن الكفاح لم يتم، وأن النضال لم ينته، وأن المطالب الأخرى التي كانت ثانوية أصبحت اليوم أكثر أهمية من مطلب الاستقلال، لأن هذا يفقد معناه وحقيقته في مثل تلك الأوضاع الفاسدة والتي أخذت تزداد فسادا بعد فساد.
والذي أصبحنا اليوم نأسف له هو أن الفكرة الثورية التي كانت توجه المقاومة، رغم أنها كانت استكملت عناصرها وبلغت الذروة في الكفاح الواعي العام، لم تستفد من التجربة الماضية بقدر ما كان ينبغي لها أن تستفيد، ولم تأخذ الدرس الذي كان عليها أن تأخذه منها. فقد وقع شبه انتكاس في القوى السياسية الواعية وبدأ يظهر للجميع مدى تفريط المقاومة في التشبث بالفكرة الثورية مما جعل الأوضاع تعود من جديد إلى الانحلال والفساد. ولكن، هناك حقيقة تاريخية خالدة وهي أن الأشخاص وإن ماتوا أو استشهدوا فإن الفكرة الناضجة الكاملة لا تموت ولا تقتل. وإذا تراجع حاملو الأفكار وانتكسوا فإن الفكرة الثورية لا تتراجع أبدا ولا تنتكس، وإنما الذي يحدث هو أن أشخاصا يختفون وآخرين يظهرون على صعيد المعركة ليحملوا المشعل الذي يظل مشعلا أبدا، نيرا أبدا! وإنما الذي يحدث هو أن الذين يحملون المشعل قد يعتريهم فتور وقد يفضلون الانتظار واللجوء إلى الوسائل السلمية المرتكزة على المساومة، ولكن سرعان ما يعودون إلى الكفاح الطبيعي، الكفاح الثوري، إذ هم كانوا يؤمنون إيمانا صادقا بالفكرة فيحملون من جديد المشعل ويخترقون الطريق. وهذا بالضبط ما حدث يوم 25 كانون الثاني / يناير 1959. إن ما حدث يوم 25 كانون الثاني / يناير ليس انتفاضة ولا ثورة وإنما هو استمرار للانتفاضة والثورة التي اتخذت صفتها الجدية غداة 20 غشت 1953. ولكن الانتفاضة أو الثورة التي توقفت مرة ليس من البعيد أن تتوقف مرات أخرى إذا هي ترددت أو ساومت أو رضيت بأنصاف الحلول كما حدث أن فعلت من قبل.
نحن الآن أمام أمرين اثنين لا ثالث لهما: إما أن نصارع الظروف والأوضاع القائمة بروح ثورية تأبى التراجع فنحقق بذلك أهدافنا التي اكتست اليوم صبغة مستعجلة، وهي أهداف تتلخص في الديمقراطية الصحيحة وعدالة اجتماعية حقة، وإما أن نساوم أنفسنا ونخضع لاعتبارات فارغة، الأمر الذي سيجعل الشعب، عاجلا أو آجلا، يتبنى مطالبه بنفسه ويحمل مشعل ثورته بيده».
ثانيا: مأساة المقاومين…
في يوم من أيام الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني / نوفمبر 1959، عندما كنا، الأخ اليوسفي وأنا، نناقش القضايا المطروحة التي يجب الاهتمام بها، اقترح الأخ عبد الرحمان كتابة سلسلة من المقالات بمناسبة الأعياد الوطنية الثلاثة: 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1955 (يوم عودة محمد الخامس)، و17 تشرين الثاني / نوفمبر (عيد الاستقلال) و18 تشرين الثاني / نوفمبر (عيد العرش). وبما أن هذه الأعياد كانت تصادف آنذاك مرور ثلاث سنوات على الاستقلال، وبما أن حكومة عبد الله إبراهيم كانت على وشك إكمال سنتها الأولى (24 كانون الأول/ديسمبر 1958) فقد اقترح الأخ عبد الرحمان الجمع بين هذه المناسبات الثلاث واستعراض ما أنجز وما لم ينجز. وبعد مناقشة الموضوع قررنا أن نجعل السلسلة في خمس مقالات.
بدأت بمقالة عن وضعية المقاومين المأساوية، ليس فقط لأن المقاومة قد ارتبطت انطلاقتها بنفي محمد الخامس وتوقفت أعمالها مع رجوعه، بل أيضا لأن قضية المقاومين وعائلاتهم كانت مطروحة بحدة كما ذكرنا من قبل. نشرت المقالات تحت عنوان دائم: «بمناسبة أعيادنا القومية… نظرات على سنة خلت». كان المقال الأول بعنوان «مأساة المقاومة». أما المقالات الأربع التالية فقد تناولت ظروف تأسيس حكومة عبد الله إبراهيم ومنجزاتها في الميدان الاقتصادي والسياسة الخارجية، وسنعود إليها في الفصل الذي سنخصصه لهذه الحكومة. أما هنا فسنقتصر على المقالة الأولى الخاصة بوضعية المقاومين.
تقول المقالة:
«في الوقت الذي يتأهب فيه الشعب المغربي للاحتفال بالأعياد القومية: الذكرى الثانية والثلاثون لجلوس صاحب الجلالة محمد الخامس على عرش أجداده الكرام، وذكرى رجوع جلالته من المنفى ظافرا منتصرا وإعلانه عن انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ عهد الاستقلال والحرية، بعد أن مرت على هذا الشعب حقبة مريرة خاض فيها الكفاح المقدس من أجل استرجاع ملكه واستعادة سيادته وحريته تحت راية المقاومة والمقاومين الذين سقط كثير منهم شهداء في سبيل عزة الوطن وكرامته، في هذا الوقت الذي نحن فيه على أهبة طي السنة الثالثة من عهد الاستقلال وعلى أبواب السنة الرابعة يجدر بنا أن نلقي نظرة قصيرة على العام الماضي لنحاسب أنفسنا كشعب وكدولة على ما أنجزناه وما حققناه، وما فاتنا إنجازه وتحقيقه، لنرى أين وصلنا في كفاحنا المستمر وأين أصبحنا في طريق هذا الكفاح.
لقد مرت الآن سنوات ثلاث كاملات على رجوع صاحب الجلالة من منفاه السحيق وإعلان انتهاء عهد الحماية! مرت ثلاث سنوات على الكفاح المسلح ضد المستعمر، هذا الكفاح الذي خاضه أبناء هذا الشعب ببطولة نادرة واستماتة أثارت إعجاب العالم. ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن عقب هذه السنوات الثلاث التي خلت هي قضية المقاومة والمقاومين وقضية أبناء وعائلات الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف برصاص المستعمر في سبيل هذا الوطن وأبنائه. ولعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن في هذه القضية هو ماذا فعلته الدولة المغربية لهؤلاء المقاومين ولأبناء الشهداء وعائلاتهم؟ سؤال يطول الجواب عنه إذا نحن أردنا استعراض قضية المقاومين منذ الأيام الأولى من الاستقلال إلى اليوم، ولكننا سنقتصر فقط على التطورات الأخيرة لهذه القضية. الواقع أن المقاومة أصبحت مشكلة بعد الأيام والشهور الأولى من الاستقلال بسبب العناصر الدخيلة التي أرادت لنفسها أن تكون مقاومة، وبسبب المحاولات العديدة التي بذلت هنا وهناك لتشتيت صفوف المقاومين وإثارة البغضاء والشحناء بين بعضهم البعض، فكانت مشكلة المقاومة التي أصبحت مشكلة حقا بسبب هذه العناصر الدخيلة ونجاح بعض محاولات مفرقي الصفوف وأعداء الوحدة. ولقد تجلت هذه المشكلة في ظهور عدة هيئات للمقاومة، مزورة مزيفة، شكلت من طرف بعضهم لاتخاذها وسيلة لتحقيق أهدافهم وآمالهم، وأداة من الأدوات التي يمكن بها أن يساوموا حين تكون المساومة مفيدة، ووسيلة لتحقيق تلك الأهداف والآمال. تشكلت عدة هيئات مزيفة استغلت اسم المقاومة واستغل مشكلوها هذا الاسم، وكان من نتيجة ذلك أن لطخ اسم المقاومة بهذه الهيئات المزورة، وكان من نتيجة ذلك أن بقيت العائلات وأولاد الشهداء ضائعين بسبب هذا النزاع المختلف المصطنع. واستمر ذلك إلى ما قبل بضعة شهور، حينما تألفت حكومة عبد الله إبراهيم وحينما أصدر صاحب الجلالة ظهيرا شريفا لتنظيم شؤون المقاومة والمقاومين. استبشر الناس خيرا بهذا الظهير واعتبروه قرارا سينهي مشكلة المقاومة والمقاومين، هذه المشكلة المختلقة. ولكن تطبيق هذا الظهير اصطدم بعقبات وعراقيل كان مصدرها هذه الهيئات المزورة وهذه المقاومات المزيفة، وأصبح تشكيل اللجنة التي ستفصل في الأمر شيئا صعبا نظرا لوجود عناصر دخيلة في صفوف المقاومة تساوم في المشاركة في هذه اللجنة التي ستنظر في قضية هي بعيدة عنها أصلا.
ومرت أيام وأيام واللجنة لم تتكون، حتى أصبحنا اليوم على أبواب السنة الرابعة من الاستقلال والمشكلة قائمة لم تحل، وأبناء عائلات الشهداء في ضياع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى