الرئيسية

 الدكتور الخطيب.. جراح في الطب والسياسة

سئل الدكتور عبد الكريم الخطيب يوما عن دوافع تأسيس «الحركة الشعبية»، فقال إنه كان يأمل أن يكون الحزب سباقا إلى إقرار نموذج «الاشتراكية الإسلامية» في برنامجه السياسي والاقتصادي.. وأن يعمل من أجل الدفاع عن قيام وحدة بين دول الشمال الإفريقي، واستشهد بأن بطاقة الانخراط في الحزب كانت تضم خريطة الدول المغاربية، من نهر السينغال إلى منطقة السلوم على الحدود الليبية – المصرية.
هل كان واردا في الطبعة الأولى لحزب «الحركة الشعبية» أن يكون نواة تنظيم ذي مرجعية إسلامية؟ لا خلاف في أن الهيئات السياسية على مختلف مشاربها كانت تتوجه إلى جمهور مسلم، مع استثناء انتساب أعضاء من الطائفة اليهودية إلى أحزاب مغربية، ومنهم من احتل مراتب قيادية. وربما أن الاستثناء في التشدد شمل الحزب الشيوعي الذي لم يرخص له قانونيا وعمليا، إلا بعد أن غير اسمه.
نظريا لم يكن هذا التصور الذي كان يبشر به الخطيب يطرح أي إشكال، فهو يقتطع من تقليعة المرحلة التي كان فيها الانبهار بالاشتراكية خلاصات شعاراتها، كي يمزجها في المنظور الإسلامي لاقتصاد التضامن والعدالة الاجتماعية. ثم يعرج على الفضاء المغاربي من منطلق روابط الدين والهوية. لكن الحزب في ظروف نشأته كان يلوح بإنصاف سكان الأرياف، ضمن فئات وشرائح ذات انتماء أمازيغي. وظل الخطيب على قناعة بأنه لولا التحاق بعض ممن لم تكن صفحاتهم بيضاء بالتنظيم الحزبي، لأمكن هذا الأخير أن يكون سباقا إلى مفهوم الحزب الإسلامي، في فترة لم يكن فيها الغلو والتطرف يرتبطان بالتيارات الدينية، وإن ظهرت في المغرب نزعات مثل البهائية، وانحرافات غلب عليها طابع الشعوذة واستخدام الدين في غير ما وجد له.
لكن محاكمة البهائيين خلفت انطباعا بتغليب فكر الوحدة في العقيدة والمذهب والسلوك والشعائر والممارسات على كل أنواع التفرقة، إلى أن ظهر ما يوصف بالبدع الخارجة عن مفهوم وطبيعة الإجماع. ولم يكن الانتماء السلفي في إطار التجديد والحفاظ على العقل والنقل يثير الارتياب، إلى أن أصبحت السلفية مرادفا للجهادية، وفق منطوق ومفهوم منغلقين. لذلك ارتبط تأسيس الأحزاب بمبادرات علماء دين ومفكرين متنورين، فقد أسس العالم الشيخ المكي الناصري حزبه الإصلاحي، من دون أن يخلف ذلك أي ردود فعل، لناحية فك الارتباط بين الدين والسياسة. وذهب الزعيم التاريخي لحزب الشورى والاستقلال محمد بلحسين الوزاني أبعد في الانفتاح والعصرنة.
بموازاة ذلك كان التعبير عن تيارات يسارية داخل المجتمع لا يخضع لأي مخاوف أو ارتياب، عدا ما يتعلق بأشكال معارضة النظام من منطلقات سياسية لم تخف واقع الحروب الإيديولوجية بين القبائل.
يذكر الخطيب حين يعرض لصعوبات الانسجام داخل الحركة، أن خلافات حول تباين الموقف من فرض حالة الاستثناء، كانت من بين الأسباب التي جعلته يعاود النظر في التجربة السياسية التي اعتراها بعض التصدع. ويتذكر بمرارة أن رفيقه المحجوبي أحرضان وجه إليه إنذارا شديد اللهجة، بعد طرد منتسبين إلى الحزب كانوا يميلون إلى دعم موقف. وقد يكون ذلك من بين العوامل التي دفعته إلى الانشقاق وتأسيس «الحركة الشعبية الدستورية» التي شكلت بعض مواقفها نشازا في سمفونية الولاء على شيك أبيض.
لا توجد المعطيات بالقدر الكافي الذي يفيد أن المغرب كان على موعد مع تأسيس حزب إسلامي في السنوات الأولى لاستقلاله ولا تلغي هذا الاحتمال. والثابت أن بعض الأحزاب التي ظهرت إبان تلك المرحلة اقتبست من الاشتراكية شعارات لها، كما في تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. ولم تكن الإحالة تثير أي اعتراض، بخاصة وأن الملك الراحل الحسن الثاني نفسه جاهر مرات عديدة بأنه في طريقه إلى تنفيذ الاشتراكية الإسلامية، ما اعتبر مبررا كافيا لفرض استئثار الدولة بقطاعات عمومية وشبه عمومية.. حتى إذا تبين إفلاس سياسات بهذا الصدد، واجهت الدولة صعوبات في التخلص من أعبائها، كما في تدبير الأراضي الزراعية وإحداث مكاتب للتصدير والشاي والسكر.
كم من مرة جاهر زوار ومستثمرون أجانب بأن الإجراءات المعقدة التي كان يتطلبها حيازة رخصة تشابه النمط السوفياتي؟ والحال أن فترة كاملة استغرقتها على النقيض من ذلك جمعيات وتنظيمات تبشر بالموعظة والدعوة والإرشاد. كلما بدا أن التيارات اليسارية تغلغلت أكثر في أوساط الطلبة والنقابات والأحزاب السياسية.
سيكون الدكتور عبد الكريم الخطيب أقرب إلى إطفائي، في كل مرة تلوح فيها بوادر أزمات مع دول إسلامية. فقد كان من بين دعاة الانفتاح على إيران، حتى في عهد غلو الإمام الخميني. وعلى رغم أن تكوينه الأكاديمي، حين درس الطب في باريس وفتح عيادته في الدارالبيضاء ثم الرباط، كان مختلفا عن الدعاة الإسلاميين، تملكته الرغبة في تأسيس حزب إسلامي في وقت مبكر.
يفصح الخطيب عن تصوره إلى درجة أنه يصف المركزيات النقابية بأنها تعتمد الأسلوب الغربي. ما حذا به إلى التفكير في تأسيس نقابة إسلامية. بيد أنه انتقد بشدة ما كان يصفه بـ «علمانية الدولة» خلال المناقشات التي سادت وضع أول دستور للبلاد. ودعا في غضون ذلك إلى التنصيص صراحة على أن الإسلام هو دين الدولة. ويذهب معاصروه إلى أنه كان يطمح دائما لتأسيس حزب إسلامي، وأقر في أكثر من مناسبة بأنه فاتح المراجع الرسمية العليا في تحويل هذه الرغبة إلى حيز التنفيذ.
حدث في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقد يكون جاء كرد فعل على إخفاق مشروعه في قيام اشتراكية إسلامية، كما في الدعوات الأولى لحزب الحركة الشعبية، غير أن إضافة اسم «الدستورية» إلى مشروعه السياسي بعد الانشقاق حرره من كثير من المؤاخذات. ثم جاءت تجربة الانفتاح على تنظيمات إسلامية تتويجا للرغبة والمسار. من يدري فقد يكون لدى حركيي امحند العنصر حنين إلى ما كان يطمح إليه الدكتور الراحل الذي كان جراحا في الطب كما السياسة؟ ولم يتأت له القيام بعملية قسرية داخل «الحركة الشعبية».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى