شوف تشوف

شوف تشوف

الراكدون والراكدات 

 

 

انشغل الرأي العام المغربي بقصة سيدة من أزرو ادعت أن جنينا “يركد” في بطنها منذ تسع سنوات، وما لبث أن هدأت الضجة حتى تناقلت المواقع خبر سيدة أخرى تدعي حملا قديما “يركد” في أحشائها هي أيضا منذ سنوات.

أتذكر أنه عندما كنت عضوا في لجنة التحكيم الخاصة بالفيلم الطويل في المهرجان السينمائي لطنجة سنة 2005، كان فيلم “الراكد” للمخرجة الذكية، ابنة مدينة جرادة، ياسمين قصاري ضمن أفلام المسابقة الرسمية.

تابعت الفيلم الذي لعبت بطولته مينة عصفور والممثلة الفرنسية الجزائرية رشيدة براكني باهتمام كبير، لأنه كان يحكي قصة رجال هاجروا من المغرب الشرقي إلى إسبانيا طمعا في فرصة عمل، في الوقت الذي تظل فيه زوجاتهم بالبيوت منتظرات وصول الحوالات وعودة الأزواج في الصيف.

عقدة الفيلم ستظهر عندما ستكتشف زينب، واحدة من نساء القرية، بعد عودة زوجها لديار الغربة أنها حامل، وهنا ستلجأ لنساء القرية للبحث عن وسيلة لكي يتحول الجنين الذي في بطنها إلى “الراكد” لتجنب الوضع بعد تسعة أشهر وتحمل اتهامات نساء ورجال القرية الذين سيؤلفون القصص حول الزوجة التي حملت ووضعت وراء ظهر زوجها.

وبمساعدة نساء القرية سيتم اللجوء إلى طرق شعبية مغرقة في الشعوذة للاحتفاظ بالحمل أكثر من تسعة أشهر، إلى حين عودة الزوج.

وخلال جلسات المناقشة مع أعضاء لجنة التحكيم كنت ألاحظ ميلا لدى بعض الأعضاء ذوي النزعة الفرنكفونية المحضة نحو منح فيلم “ماروك” لمخرجته ليلى المراكشي إحدى جوائز المهرجان، فحسمت النقاش لصالح حصر لائحة مصغرة للأفلام التي تستحق حمل صفة فيلم سينمائي والتي سوف نتناقش حول طبيعة الجوائز التي ستمنح لها، وقد شاطرني الرأي كل من الناقد الصديق ابراهيم الخطيب وَالمطرب عبد الوهاب الدكالي، الذي فاجأني صراحة بمواهبه في الرسم والسخرية، والمصممة اللطيفة زهور الرايس، التي صارحتني بأنها إذا كانت بارعة في تصميم القفاطين إلا أنها لا تفهم كثيرا في السينما، وأنها قبلت المشاركة في لجنة التحكيم فقط لأن نادية لارغيط زوجة نور الدين الصايل مدير المهرجان طلبت منها ذلك، فقلت لها لا عليك “نتي غي اللي شفتيني درتها كولي آمين”.

وهكذا تم الاتفاق على منح فيلم “الراكد” لياسمين قصاري الجائزة الكبرى للمهرجان، وبعد طنجة حصل الفيلم على أكثر من 70 جائزة وطنية ودولية. وحسب ياسمين قصاري فالراكد الحقيقي لم يكن الطفل، بل ذلك الأمل في المستقبل، فبالنسبة لها الاعتقاد في “الراكد” فكرة تتجه نحو الأمل، أي أن غدا سيكون هناك وليد، وكل ما يرمز له من أمل.

والحقيقة أن “الراكد” موجود بالفعل في المغرب.

“الراكد” الحقيقي هو الوضع في هذا البلد.

فنحن نبدو في المغرب وكأننا كل سنة نكرر شريط الأحداث نفسها، حتى أنه لو أعدنا إصدار أعداد الجريدة من السنة الماضية بأحداثها التي مضت ووضعنا عليها تاريخ الْيَوْمَ فلا أحد سينتبه إلى كونها مجرد أرشيف.

دولة مثل سويسرا ستطبق قانونا ابتداء من فاتح مارس المقبل يمنع غطس القيمرون الملكي حيّا في الماء المغلى لطهيه، بالإضافة إلى قانون آخر يعاقب بغرامة كل من يمنع الكلاب من حقها في النباح.

يحدث هذا في سويسرا في وقت مازال عندنا حتى البشر ممنوعا من الصراخ والاحتجاج، فيما المرضى يرمى بهم في الشارع مثل القمامة، وكل ما تفتقت عنه عبقرية المسؤولين هو فرض غرامة على كل من ينشر “سليباته” في حبال الغسيل في النوافذ.

كل سنة تعود الليشمانيا لكي تلتهم جلود الأطفال في  تنغير.

كل سنة يعود الموت لكي يخطف الأرواح في الأعالي بسبب البرد.

كل سنة يأتي الفيضان وتنهار القناطر وتنحرف الطرق وتسقط المنازل فوق رؤوس أصحابها.

كل سنة نرى اللصوص أنفسهم يسرقون والنَّاس أنفسهم يموتون أمام بوابات المستشفيات، وكل سنة نسمع الوعود نفسها بأن الوضع سيتغير وأن الفساد سيحارب.

كل سنة يتكرر المشهد كما لو أننا أمام أسطوانة عالقة في آلة تسجيل كبيرة تصدح بأغنية مشروخة واحدة إلى ما لا نهاية.

شيء واحد يتغير، وهو أنهم يخترعون كل سنة صنفا جديدا من الغرامات.

غرامة لكل من نشر غسيله في النوافذ.

غرامة لكل من نشر غسيل الحكومة في الجرائد.

غرامة لكل من قطع الطريق في غير ممر الراجلين.

غرامة لكل من حاول قطع الطريق على المفسدين.

غرامة لكل من فتح فمه في غير عيادة طبيب الأسنان.

غرامة لكل من غادر بطن أمه قبل الأوان.

غرامة لكل من ضبط يأكل في الحدائق.

غرامة لكل من تحدث عن الذين يأكلون أطراف البلد ويشعلون في ثيابه الحرائق.

غرامة لكل من تحرش بفتاة في الحافلة.

غرامة لكل من رفع قبضته في وجه من يتحرش بالجميلات من بنات الأفكار.

غرامة للعشاق في الشاطئ الصخري بتهمة ممارسة الحب.

غرامة لكل من يضبط مسؤولا جلفا يزني بالوطن وراء ظهر الشعب.

غرامة للراغبين في الفرار مِن البلد.

غرامة للذين فروا بأموالهم وعادوا بها محمية إلى البلد.

يبيعونك الخمر وعند باب المتجر يقبضون عليك متلبسا بتهمة السكر العلني، وعندما يقدمونك أمام القاضي عليك أن تدفع غرامة، حتى تستعيد حريتك وصحوك، وتفهم أخيرا أنك تعيش في بلاد تحتاج فيها الغرامة إلى غرامة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى