شوف تشوف

الرأي

الرحى

«إن الغيرة تعرف أكثر مما تعرف الحقيقة»، غابرييل غارسيا ماركيز.
لم تكن تلك أول مرة يتحدث لها عن امرأة تقترف الكتابة كاختيار أنطولوجي، لكي تطوي صفحات الماضي المأهولِ بالكبوات وبالسقوطِ سهواً خلف أسوار التهميش والإقصاء..
كثيراتٌ هن اللائي برعنَ في تقمص دور الضحية التي لا تملك من أمرها سوى التمرد بواسطة الحرف عوض التذمر المجاني، أو الخضوع لطحن الرحى في مجتمع ذكوري بامتياز.
كان يتحدث كثيرا عن تجارب هؤلاء النسوة المتشحات بغنائية حزن مستديمة، وفي كل مرة يلبس عباءة المدافع المترافع عن كرامتهن وحريتهن وحقهن اللامشروط في الحياة والمساواة والمناصفة؛ يرتدي عباءته ويحمل قلمه، ثم يصعد إلى أعلى درجة في سلم الرفض، وينادي بأعلى صوته:
ــ يا معشر النساء، أيها الجمع المؤنث السالم، المؤنث جداًّ.. والجذاب جداًّ، فلتتقدمْ أكثركن جمالاً واتِّقاداً ودهاءً، لكي تفوز بقلمي وتغنم بفكري الهدامِ، لكل معاني الاستبداد والاستعباد..
على الرغم من كرنفالية المشهد الذي كان يذكرها أحيانا بحلقات النضال المبتذل بساحات الجامعة أيام الدراسة والعنفوان، إلا أنها كانت تؤثر أن تصدق ما ترى وتسمع، لأنه كان يخيل إليها من سحره أنها تعشقه حد الجرح، وأنها تتفوق على جميعهن لاعتقادها أنها الأجمل والأكمل، وأنها الملكة التي تربعت على عرش قلبه ومواجده، وأنه يجعلهن في مرتبة الوصيفات المطيعات لأمرها. وبقدر ما كانت هذه الصورة ترضي غرورها كانت تسدد نبالا سامة نحو قلبها التعب، فلا برد ولا سلام ولا نعيم يطفئ جذوة النار المشتعلة في حلق الضيق، وفي تعاقب الليل والنهار.. كانت طول الوقت تشعر بالحزن لأنها ما فتئت تسمع كلاما في الحب ولا تلمس الحبَّ، كمن يعطش في اليوم ألف مرة أمام كوب ماء صغير، يراه الظمآن نهرا، سئمَتْ وسادات الريش والدمى ذات الفرو الناعم. وكلما وقفت أمام المرآة، بدَتْ لها سوءاتُهنَّ بدلا من فتنتها، ما السبيل إلى الزج بهن في غيابات الجحيم..
في إحدى ليالي الربيع المقمرة أحست بشيء غريب يحرضها على الوقوف بإحدى صفحات نون النسوة فقرأت في المقدمة ما يشبه أفكاره وأسلوبه، بل إنها عبارات لا تتوه عنها مطلقا، إنها له.. له وحده، نعم لقد كان يبوح لها أحيانا بإعارته قلمه لإحداهن، بدافع الشهامة والمروءة، لم تتمالك غيرتها التي أضرمت النار في الأخضر واليابس، فكتبت ما يلي:
هناك بون شاسع بين أسلوبك وأسلوبها ذلك أنني أحفظ تعابيرك ومجازاتك التي لا تجوز إلا معي ولي… فبقدر ما حاولَتْ أن تضبطها على مقاساتها، فقد فشِلتْ للأسف، إنَّ هذه الأنثى المفتعلة في نمطها وكل تفاصيلها، لم تتناسب واستعاراتك، ثم إنها حاولَتْ أن تجعل من اسمك قارب النجاة في هذه المغامرة الإبداعية، لكنني أرى وبموضوعية كبيرة أن الفشل كان واضحا لذوي التبصر والنفاذ، ليس لأنني الأقرب إلى هذا الحضور، ولكنني القارئة التي تتفاعل مع الصدق المنسجم مع أصالة اللغة وروعة المجازات المعبرة عن قوة التخييل ودقة التفاصيل وبلاغة التصوير وجودة الصياغة والتسلسل في البناء السردي لأي نص مبدع من شأنه الاستحواذ على قارئه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى