شوف تشوف

الرأي

العالم العربي صار مهددا في حدوده ووجوده (1/2)

في كلمة ألقاها سفير دولة الإمارات العربية في واشنطن أمام مؤتمر جامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع، قال ما يلي: إن دولة الإمارات هي التي تقود المنطقة العربية بمبادراتها ومشاركتها في ستة تحالفات مع الولايات المتحدة. أضاف السفير يوسف العتيبة أن بلاده هي الوحيدة التي شاركت ومازالت شريكة للولايات المتحدة في كل العمليات العسكرية خلال الـ25 عاما الأخيرة، سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا.
وطبقا لما نشرته صحيفة «القدس العربي» بداية يناير فإن السفير أشار إلى أن في بلاده قاعدة عسكرية أميركية كبيرة بها ثلاثة آلاف جندي، كما أن جميع العمليات التي تقوم بها السفن الحربية الأميركية بالمنطقة تنطلق من ميناء جبل علي. تحدث أيضا عن قيام دولة الإمارات بدور مهم في نشر الإسلام المعتدل من خلال مجلس حكماء المسلمين الذي ترعاه، ويضم علماء متنورين يؤمنون بالفكر الوسطي وليس المتطرف. كما تحدث عن التنسيق القائم بين الإمارات والولايات المتحدة لمواجهة الأفكار المتطرفة من خلال المشاركة معا في مركز «صواب» المتخصص في النهوض بهذه المهمة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
بشكل موازٍ، كتب الباحث الأكاديمي الإماراتي د. عبد الخالق عبد الله القريب من دائرة القرار السياسي في الإمارات على صفحته يوم 11 يناير قائلا إن السعودية هي اليوم مركز الثقل السياسي العربي والإسلامي، باعتراف الأصدقاء والأعداء، وفي تعليق له نشره الأسبوع الماضي ذكر أن دبي وأبو ظبي والشارقة وبقية المدن الخليجية، وليس بيروت والقاهرة وبغداد، هي التي تقود حركة التنوير والحداثة بالمنطقة العربية في القرن الحادي والعشرين.
ثم قال في وقت لاحق إن البعض يلوموننا حين نكرر أن الإمارات هي اليوم الدولة القدوة في العالم العربي، وأن هذه لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر، وهذه الفكرة الأخيرة عبر عنها السياسي الكويتي المخضرم السفير عبد الله بشارة (الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي) حين نقل عنه قوله إن القرار العربي انتقل من دول الماء إلى دول النفط.
مصر لها نصيبها من هذه الرؤية المستجدة لخرائط المنطقة. عبر عن ذلك أحد الكتاب والأكاديميين السعوديين البارزين. د. خالد الدخيل أستاذ العلوم السياسية، في مقالة له نشرتها صحيفة الحياة اللندنية يوم 29/11/2015 ففي حديثه عن أجواء العلاقات المصرية السعودية ذكر أن معضلة العلاقة في الظروف الإقليمية الراهنة تكمن في أن النخبة المصرية المثقفة «تريد أن تستعيد مصر دورها القيادي في الإقليم كما كان عليه في النصف الأول من القرن الماضي (و) يعبر الموقف الرسمي المصري عن الأزمات التي تعصف بالمنطقة عن الرؤية ذاتها، لكن غموض ذلك الموقف يعبر عن إحباط ناتج كما يبدو من إدراك متمكن بأن إمكانية استعادة هذا الدور القيادي لم تعد متاحة كما كانت عليه من قبل، فمصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي وقبله عهد محمد مرسى القصير لم تعد مصر في العهد الملكي ولا مصر في عهد عبد الناصر.
والعالم العربي الآن يبتعد كثيرا عن العالم العربي، كما كان عليه أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. أصبح من الواضح أن استعادة مصر دورها القيادي تتطلب تغييرا في مصر قبل أي مكان آخر، يضعها في مقدم المنطقة كما كانت عليه من قبل.
وأضاف أنه لا أحد يعترض على استعادة مصر دورها، لكن السياسة والأدوار القيادية فيها لا تتحقق بالأماني والتعلق بأحلام تعود لماضٍ بعيد. لم تعد مصر في مقدم المنطقة لا في الاقتصاد ولا في السياسة، ولا حتى في التنمية والعلم. عصر عمالقة مصر بالمعايير المصرية انتهى. باتت الدولة في مصر تعانى مما تعانيه دول عربية كثيرة، تعترف بأن التغيير أصاب مجتمعها كما أصاب المنطقة والعالم. لكنها تنتظر من هذا التغيير أن يتأقلم معها لا أن تتأقلم هي معه ومع مقتضياته.
تحدث د. الدخيل عن أنه بعد انهيار سوريا والعراق لا يمكن إنقاذ المنطقة إلا بتعاون مع السعودية، وذلك يتطلب رؤية مشتركة مع مصر للحلول والمخارج، إلا أن مصر في وضعها الاقتصادي والسياسي الصعب تخشى فيما يبدو أن يكون التوصل إلى رؤية مشتركة مع الرياض في صالح اعتراف إقليمي بتبلور قيادة سعودية للمنطقة على حسابها.
وعلق على ذلك قائلا إن مصر «تريد المساعدات المالية السعودية والخليجية، لكنها لا تريد أن يكون لهذا ثمن عليها أن تدفعه ضمن معادلة المصالح العربية المتبادلة».
هذا الكلام ليس مجرد آراء شخصية أو اجتهادات لنفر من مثقفي الخليج، ولكنه يعبر عن رؤية تبلورت خلال السنوات الأخيرة وعكست بعض جوانب الخرائط التي استجدت في العالم العربي في ضوء الحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها، وهى أن مصر صغرت والآخرين كبروا.
أضع بين قوسين المبالغات والشطحات التي وردت في بعض التعليقات، خصوصا تلك التي ألغت أدوار بيروت والقاهرة وبغداد لصالح دبى وأبو ظبي والشارقة وقيادة الأخيرين للتنوير والحداثة في القرن الواحد والعشرين. فيما عدا ذلك لا يخلو من صواب ذلك الحديث عن انتقال مركز القرار العربي إلى دول النفط (رغم انخفاض أسعاره) كذلك لا يخلو من منطق تحليل د. الدخيل.
في كتابات سابقة أشرت أكثر من مرة إلى أن قيادة العالم العربي ليست وقفا ولا حكرا على بلد دون آخر، لكنها مسؤولية لها شروطها، من استطاع أن ينهض بها فهو جدير بها، لذلك فإن السؤال الصحيح ليس من يقود ولكنه في معايير تبوُّء مقعد القيادة والقدرة على الوفاء باستحقاقاتها من وجهة نظر المصالح العربية العليا.
وما عاد سرا أن مصر تخلت عن القيادة السياسية للعالم العربي بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وتوقيع اتفاقية كامب ديفد مع إسرائيل عام 1989. إذ منذ ذلك الحين ظل مقعد القيادة شاغرا، رغم محاولات ملئه من جانب الرئيس العراقي صدام حسين تارة والعقيد معمر القذافي تارة أخرى. وحين توالت الانهيارات في المشرق بوجه أخص في ظل الفراغ المخيم، برز دور دول الخليج التي امتلكت من القدرة الاقتصادية ما لم يتوافر لغيرها من دول الإقليم.
وبقوتها تلك فإنها تصدرت المشهد وتعاظم دورها السياسي بصورة نسبية، وأصبحت صاحبة القرار في الجامعة العربية على الأقل، إلا أن ذلك تم في ظروف بالغة التعقيد، أزعم أنها الأسوأ في التاريخ العربي المعاصر، صحيح أن تراجع أسعار النفط حد من القدرة المالية لتلك الدول، إلا أنها لا تزال تؤدى دورها النسبي في توجيه القرار العربي، لأن أوضاع بقية الدول العربية الأخرى أكثر ضعفا. أما الظروف المعقدة التي أعنيها فتتمثل في ما يلي:
– إن دول الخليج تعاني خللا خطيرا في تركيبتها السكانية يؤثر على استقرارها في الأجل البعيد، فوفق تقديرات المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي الست فإنها تضم نحو 49 مليون نسمة (عام 2013) إلا أن العمالة الآسيوية تمثل 16 مليونا في الوقت الراهن ويقدر لها أن تصل ثلاثين مليونا عام 2025. وطبقا لتقديرات الباحث الإماراتي د. حسين غباشي فإن نسبة العمالة الأجنبية تصل إلى 9 في المائة في الإمارات و75 في المائة في قطر، بينما تتراوح بين 30 و60 في المائة في بقية الدول.
– إن دوله، وهى تتصدر المشهد العربي وتمسك بزمام القرار العربي، تعانى من الخوف والقلق من محيطها الخارجي خصوصا بعد التدخل الإيراني في اليمن. ورغم أن دوله تتصدر قائمة الدول الأكثر إنفاقا على التسليح، حتى إن الإمارات تعد واحدة من أعلى خمس دول في العالم تشتري السلاح، فإنها تعتمد اعتمادا شبه كلي على الحماية الأجنبية. لذلك فإن القواعد العسكرية الأجنبية منتشرة في كل دولها بغير استثناء. ولم يعد الأمر مقصورا على الأميركيين والإنجليز والفرنسيين، وإنما اصطف إلى جانبهم الأستراليون والقادمون من كوريا الجنوبية. وقد التحقت تركيا بالقائمة مؤخرا، حين أقامت لها قاعدة عسكرية في قطر.
– إن مستقبل العالم العربي أصبح يتقرر خارج حدوده. واللاعبون الكبار في الإقليم أصبحوا محصورين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران وتركيا. وذلك واضح تماما في الملف السوري الذي تتولاه تلك الدول، ولروسيا فيه كلمة مسموعة بحكم وجودها على الأرض في سوريا. ومن الواضح أن القرار العربي لا تأثير له على الملف السوري، فضلا عن أنه لم يحل شيئا في مشكلتي ليبيا واليمن.
– إن حالة الهشاشة التي يعاني منها العالم العربي جعلته أكثر قابلية للتشرذم والانفراط، على نحو جعل احتواءه ومحاولة رأب تصدعاته عملية بالغة الصعوبة، الأمر الذي يلغي دور أي قيادة عربية، وقد رأينا بوادر التقسيم في العراق سواء بين السُنة والشيعة فضلا عن دعوة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني إلى الاستفتاء على الاستقلال.
كما أن خرائط تقسيم سوريا وإقامة دولة علوية تبدو تحت الإعداد. ولا يعرف مصير أقاليم ليبيا، كما أن ملف دارفور لم يغلق بعد في السودان. وهذه الهشاشة أطلقت يد إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ففرضت حصارها على رام الله والبيرة وقباطية، إلى جانب حصارها التقليدي لقطاع غزة فضلا عن استمرار محاولاتها اقتحام المسجد الأقصى.
وإذ تحل هذا العام الذكرى المئوية لتقسيم العالم العربي طبقا لاتفاقية سايكس بيكو التي وقعت عام 1916، بعد الحرب العالمية الأولى، فإن المئوية الجديدة تنبئ بما هو أسوأ. ذلك أن الاتفاقية وقعت بعد انهيار الدولة العثمانية التي وصفت بأنها رجل أوروبا المريض، وهو وضع قريب الشبه بانهيار النظام العربي وتراجع دور مصر التي صارت رجل العرب المريض.
وكما انكسرت راية الدولة العثمانية آنذاك، فإن الإرادة العربية انكسرت بدورها بعد خروج مصر على الإجماع العربي في معاهدة السلام مع إسرائيل، وبعد تعرضها للهزات السياسية والاقتصادية. وذلك الانكسار فتح الباب واسعا لمختلف التصدعات التي فتحت شهية كثيرين للحديث عن إعادة تقسيم العالم العربي ورسم خرائط جديدة له، وقد أشرت توا إلى حظوظ العراق وسوريا والسودان منها، كما أن مشروع دولة الخلافة (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) يبدو ضمن تجلياتها.
ثمة ملاحظتان أساسيتان ترِدان في هذا الصدد. الأولى أن العالم العربي في ظل الخرائط الجديدة لم يعد مهددا في حدوده فحسب، وإنما في وجوده أيضا. وذلك حاصل في الوقت الراهن دون غزو من الخارج، وبفعل عوامل داخلية في الأغلب.
الملاحظة الثانية أن موازين القوى المحيطة تغيرت هذه المرة. فلئن كانت إنجلترا وفرنسا وراء اتفاقية سايكس بيكو قبل مائة عام، فإن رعاة القسمة هذه المرة تضاعفوا، وانضمت إليهم الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل. ولذلك حديث موجع آخر أستكمله الأسبوع المقبل بإذن الله تعالى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى