الرأي

الكل مخطئون

لم نعط فرصة للتفاؤل بالعام الجديد. فقد داهمنا السيناريو الأسوأ في أيامه الأولى حتى فوجئنا بنذر الحريق تدخل علينا من أوسع الأبواب إثر انفجار الموقف بين السعودية وإيران، ودخول أغلب دول الخليج بسرعة على الخط. وهو ما يستصحب انقساما وتأجيجا للصراع بين السنة والشيعة. وبذلك نصبح على أبواب الحريق الكبير الذي نسأل الله أن يقينا شروره وأن يلهم العقلاء القدرة على احتوائه والإقلال من خسائره.
الآن تحققت النبوءة السورية التي جرت على لسان رئيسها بشار الأسد، حين قال إن مشكلة بلاده من شأنها أن تقلب المنطقة رأسا على عقب، وتفتح عليها أبواب الجحيم. وهو مشهد صرنا على أعتابه هذه الأيام. صحيح أن الاصطفاف الحاصل لم يتبلور في شكله النهائي بعد، إلا أن له مقدماته المؤرقة. إذ بعد قطع العلاقات كلها فجأة بين السعودية وإيران. وحذت حذوها أغلب الدول الخليجية والسودان، فإن الاصطفاف المصري التحق بذلك المعسكر على الصعيد السياسي. وثمة علامات استفهام تحيط بالموقف التركي الذي يفترض أنه يقف إلى جانب السعودية، خصوصا أن الأزمة الراهنة انفجرت بعد أيام قليلة من الاتفاق على تشكيل مجلس للتعاون الاستراتيجي بين البلدين. يضاعف من القلق أنه في الوقت الذي تشكل إيران تحالفا مع روسيا في سوريا، فإن ثمة أزمة متصاعدة بين موسكو وأنقرة وتجاذبا حاصلا بين تركيا والعراق وتحرشات سياسية حتى الآن بين تركيا وإيران تفوح منها روائح لا تبعث على الاطمئنان. وهي عناصر تشكل لوحة مسكونة بالتوتر وعوامل الاشتعال، التي يحمد لدول المغرب العربي أنها ما تزال بعيدة عنها إضافة إلى قطر وسلطنة عمان في منطقة الخليج.
إزاء ذلك فإن الباحث لا يستطيع أن يخفي حيرته إزاء المشهد. من ناحية لأن الصراع المتأجج أنسى الجميع الهم الاستراتيجي المتمثل في احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، الأمر الذي أطلق يدها في تهويد القدس ومضاعفة التوحش الاستيطاني. من ناحية ثانية، لأن تلك التفاعلات الخطرة تحدث في ظل فراغ عربي هائل أحال الساحة إلى مسرح للفوضى المدمرة التي لن يتحقق فيها الفوز لأي طرف. وإنما سيخرج منه الجميع خاسرين. من ناحية ثالثة، لأن ضمير الباحث يفرض عليه ليس فقط أن يرفض الانخراط في أتون الصراع الحاصل، وإنما يملي عليه استنكار ممارسات طرفي الصراع. ذلك أن المغامرات الإيرانية في العالم العربي تجاوزت الحدود بحيث أساءت إلى قيم الثورة الإسلامية ذاتها، بقدر إسهامها في إثارة الفوضى في العالم العربي. أتحدث عن مساندتها لانقلاب الحوثيين في اليمن وصولا إلى وقوفها إلى جانب نظام الأسد واشتراكها في مقاتلة الشعب السوري. مرورا باستباحة العراق والحديث عن نفوذها في عدة عواصم عربية أخرى، لبنان في المقدمة منها. بالمثل فإن إعدام 47 مواطنا دفعة واحدة يمثل صدمة للضمير، ليس فقط بسبب العدد الذي يعيد إلى الأذهان مشاهد الإعدامات الجماعية التي أصبحت وصمة في جبين القضاء. وإنما أيضا لأن ثمة شكوكا كبيرة حول ظروف التقاضي والمحاكمات، إضافة لطبيعة التهم الفضفاضة التي نسبت إلى الجميع.
إنني أفرق بين ما هو جنائي وما هو مذهبي أو سياسي. وليس لدي أي دفاع عما هو جنائي لأن القانون هو الفيصل فيه. وحتى إذا قيل إن شرع الله هو الحكم، فمبلغ علمي أن العدل هو جوهر الشرع بنص القرآن (إن الله يأمر بالعدل). ثم إن العدل له مقومات لابد أن تتوفر لكي تقوم له قائمة. منها استقلال القضاء ونزاهة التحقيق، وتوفير حق الدفاع وعلنية المحاكمة والتمكين من مراجعة حكم القضاء. وتوفير تلك الضمانات له أهميته القصوى في حالات الإعدام بوجه أخص، التي تتطلب تحوطا شديدا. (القانون المصري يوجب عرضها على محكمة النقض بعد أخذ رأي المفتي).
أيا كان التكييف الشرعي لما قام به المتهمون الذين ألقي القبض عليهم بين عامي 2003 و2012 فإن إعدامهم يثير العديد من علامات الاستفهام التي تؤرق الضمير وتحيره. وإذا كان الذين ارتكبوا الجنايات قد توفرت لهم المحاكمة العادلة بالمواصفات السابق ذكرها فلا يسعنا إلا أن نسلم بالأمر ونقبل به، لذلك فإن تساؤلنا ليس منصبا على الحكم الصادر ولكنه محصور في مدى توفر متطلبات العدالة وشروطها، التي أثارت حولها تقارير المنظمات الحقوقية الدولية لغطا واسع النطاق. أما في ما يخص الشيخ نمر باقر النمر الذي هو بالأساس مرجع ديني وإمام وخطيب مسجد في القطيف ذات الأغلبية الشيعية، فإن ما نسب إليه يختلط فيه السياسي بالمذهبي، ولم ينسب إليه ما هو جنائي. لذلك أشك كثيرا في صواب إعدامه، الذي كان له صداه السلبي في أوساط الشيعة بالخارج وباكستان مثلا.. في الوقت ذاته فإن ردود الأفعال الإيرانية الرسمية كان مبالغا فيها إلى حد كبير. حتى أزعم أن الخطأ في الجانب السعودي عولج بخطأ آخر من الجانب الإيراني تمثل في التصعيد السياسي الخطير وفي محاولة إحراق مقر السفارة السعودية في طهران.
من المفارقات أن البلدين «الشقيقين» المتصارعين ينطلقان من المرجعية الدينية، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إنهما أساءا إلى الإسلام كثيرا بما أقدما عليه. لذلك فإن السؤال الذي ينبغي أن يجيب عليه العقلاء هو كيف يمكن إطفاء الحريق وليس تأجيجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى