الرأي

النهاية من ديكارت إلى خاشقجي

بقلم: خالص جلبي

 

بعد مرور 18 يوما على اختفاء الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بتركيا، اعترفت الحكومة السعودية أن الرجل مات على نحو عارض من خلال مشادة ومشاجرة فقضى نحبه.

قصة اختفاء خاشقجي السعودي والمهدي بن بركة المغربي وسليم اللوزي، رئيس تحرير مجلة «الحوادث» اللبناني، تمثل نهايات لأصحاب فكر وقلم في غابة العروبة التي لا تحفل بالتخلص من أصحاب الفكر، مما يخلق لونا من الإحباط عند كل مفكر وصاحب قلم بمن فيهم أنا من يكتب، ولكنني أتذكر قوله تعالى: «أليس الله بكاف عبده». وحين سمعت الاعتراف السعودي بتصفية الرجل على شكل مسرحية مضحكة، تذكرت قصة نهاية ديكارت، الفيلسوف الفرنسي الذي طلبته ملكة السويد ليقوم بمهمة التدريس في جو السويد المعتم البارد، وطلبت منه أن يقوم بوظيفته صباحا، فهي تحب هذا الوقت للانتعاش الفكري والروحي، والرجل كان يحب نوم الصباح، خاصة في الأجواء الممطرة والرطبة والباردة، ولكنه استجاب لرغبته فمات من أثر نوبة التهاب صدر.

هكذا سجلت كتب التاريخ نهايته، ولكنني وقعت على بحث هام يفيد نهاية مختلفة كما هي قصة صاحبنا السعودي خاشقجي. والرجل استكتبني مرتين عنده في جريدة «الوطن»، فلما طار منها بعد كتابته شيئا لا يرضى عنه المتشددون الحمقى، كان مصيري خلفه؛ فطرت مع طيرانه من الجريدة، وهي ليست المرة الأولى فقد طرت من جريدة أخرى، بعد أن كتبت فيها مقالات علمية دسمة لعشر سنين فطرت من خلال جملتين نقلت عني، وهو أمر متوقع في الغابة العربية، حيث تسرح فيها الضواري الأمنية.

ومما أتذكر وبمناسبة مرور  أربعمائة سنة على ولادة فيلسوف التنوير الفرنسي (ريني ديكارتRENE  DESCARTES)، الذي اعتمد آليات الشك لتمحيص الحقيقة، وألقى في القارة الأوربية بذور النهضة العقلية، تقدم صحافي وطبيب ألماني هو (آيكه بيس، 54 عاما) بتحقيق هز فيه الأوساط الأكاديمية، يزعم فيه أن الفيلسوف ديكارت لم يمت من برد السويد بالتهاب رئوي؛ بل بالحري مسموما بجريمة مدبرة، تم ترتيبها بين مبعوث الفاتيكان الذي كان يقوم بمهمة إقناع ملكة السويد بترك المذهب البروتستاني والتحول إلى الكثلكة، وبين منافسين لديكارت داخل البلاط الملكي يعملون في حقل الفيلولوجيا (PHILOLOGY).

وهي تذكر بقصة حديثة نشرتها قناة الديسكفري العلمية، عن طبيب أسنان سويدي أماط اللثام عن الطريقة التي انتهى بها نابليون مسموما أيضا بالزرنيخ، وعلى يد أقرب الناس إليه في جزيرة هيلانا، بعد أن نفحه خمسة ملايين فرنك!

عرف ذلك يقينا أثناء نقل جثمان نابليون من المقبرة بعد 14 عاما، فكان كما هو وكأنه دفن البارحة، فظن القوم أنها معجزة للقديس نابليون، ولكن الطبيب السويدي ومن خلال بقايا خصلات شعر الجنرال عند محبيه، عرف أنه مات مسموما وبالتدريج بالزرنيخ مع جرعات الخمر.

ولعل نهاية الأسكندر الذي مات شابا كانت قريبة من هذه الطريقة.

ولكن الذي مات بالسم علنا كان سقراط، حين حكمت عليه ديموقراطية أثينا بتجرع سم الشوكران!

ويقال عن تسميم أبو حنيفة والحسن بن علي والإمام العادل عمر بن عبد العزيز، إنهم أنهوا حياتهم أيضا موتا بالسم غيلة..

ولد الفيلسوف ديكارت في (لاهي)، وهي بلدة صغيرة في منطقة التورين (TOURAINE) بفرنسا عام 1596م، وفي عام 1650 م اختتمت حياته عندما أعلنت ملكة السويد (كريستينا CHRISTINE) نبأ وفاته بالتهاب رئوي حاد عن عمر يناهز 54 عاما.

ترك ديكارت خلفه أثرا مزلزلا وما زال في مفاصل العقل الإنساني الجمعي؛ فديكارت يعتبر اليوم محطة عقلية لكل من يرتاد حقل الفلسفة، أو يريد التعرف على التحولات العقلية الكبرى فيها، وكل من جاء بعده ممارسا للفكر؛ لابد أن يتأثر بالطريقة التي طرحها بشكل أو بآخر، فيعتبر أهم ما كتب الفيلسوف سبينوزا من بقايا بصمات ديكارت عليه، فرسالته في «تحسين العقل» تنحو منحى ديكارت في كتاب «المقال على المنهج»، كما أن رسالته الهامة الثانية عندما أراد أن يفهم الأخلاق بشكل هندسي (الأخلاق مؤيدة بالبرهان الهندسي)، هي من آثار ديكارت في فهم كل شيء في الكون بشكل ميكانيكي.

 

ما الذي أثار شبهة موت ديكارت مسموما بالزرنيخ؟

كان مفتاح هذه القصة الخطاب الذي تبادله اثنان من الأطباء، فأما الأول فهو طبيب البلاط السويدي، الدكتور (يوهان  فان فوللنJOHANN VAN WULLEN)، الذي عاصر لحظات ديكارت الأخيرة وتطور مرضه في الأيام الأولى من شهر فبراير من عام 1650 للميلاد، في استوكهولم عاصمة السويد، وأما الطبيب الثاني الذي عُنوِّن له الخطاب ولم يتسلمه قط، فهو طبيب عاش في القرن السابع عشر، وهو جد بعيد للدكتور (آيكه بيس)، الذي أثار الموضوع اليوم في مدينة فوبرتال (WUPPERTAL) الألمانية، وكان يومها الطبيب الخاص للأمير (يوهان  موريتس فون ناساو- زيغن MORITZ  VON  NASSAU –  SIEGEN).

هذه الوثيقة البريئة! وقعت في يد الدكتور والصحافي (بيس)، والتي كانت نائمة في أرشيف جامعة (ليدن من هولندا LEIDEN) كل تلك القرون!

ولكن لماذا استقرت في هولندا ولم تصل إلى يد الدكتور (ويليم بيسWILLEM PIES)، الجد الأعلى للدكتور (آيكه بيس) المقيم حاليا في فوبرتال؟

كانت الرسالة وثيقة مريبة عن وصف حال فيلسوف التنوير ديكارت وهو في سكرات الموت، فالدكتور السويدي الذي كان يسجل يوميات انهيار صحة الفيلسوف بأعراض لا تُخفي مظاهر التسمم بالزرنيخ، مثل البول المدمى واللعاب المسود الغزير ودوران العينين التائه ونوعية تقطع التنفس، المشير إلى التسمم الحاد بالزرنيخ، كما أن ديكارت نفسه ارتعب من جو المكائد التي هرب منها طول حياته فلحقته إلى السويد.

ويبدو أنه أدرك أنه وقع في المصيدة، فطلب بعض الأدوية التي تحرض عنده التقيؤ، كي يتخلص من السم اللعين، ولكن يبدو أن جرعة أخرى لحقته في اليوم الثامن من كربه فألحقته بالقبر.

الدكتور (آيكه بيس) فتح الباب إلى قصةٍ مثيرة من القصص البوليسية التاريخية، فبمقارنة الخطاب المرسل من طبيب لآخر، وباستعراض مظاهر المرض التي بدأت مع اليوم الثاني من شهر فبراير من عام 1650 م، والتي أنهت حياة الفيلسوف ديكارت في اليوم 11 منه في الساعة الرابعة صباحا، افترض أن جرعة السم الأولى أعطيت له مع جرعة النوم، وأما الثانية فكانت للقضاء المبرم عليه في اليوم الثامن.

ويبقى لإثبات هذه الفرضية الإجرامية التاريخية الوصول إلى المتبقي من عظام الفيلسوف لفحصها عن طريق الطب الشرعي، فسم الزرنيخ يبقى في العظام فلا يزول، ويمكن التأكد منه بفحص الجمجمة مثلا.

 

ما الذي قاد ديكارت إلى السويد ليلقى حتفه فيها؟

في خريف عام 1649 م أرسلت ملكة السويد كريستينا (ابنة الملك جوستاف أدولفGUSTAV ADOLF) ضابطا كبيرا برتبة أدميرال إلى الفيلسوف المتواري في هولندا، والذي كان يُروى عنه دوما المثل:

(عاش سعيدا من توارى في الظل وأمعن في الاختفاء عن الأنظار)، تطلب منه المثول أمامها باستوكهولم لتتعلم على يديه (فن التفكير الصحيح)!

كان ديكارت يومها يعيش في هولندا متواريا، يغير بيته أربع وعشرين مرة في أقل من عشرين عاما، قد سمع بأهوال محاكم التفتيش والمصير الذي تعرض له الفيلسوف والعالم الإيطالي (جاليلو)، كما أن حرق جيوردانو برونو الذي دُشِّن به القرن السابع عشر حين أحرق حيا في ساحة عامة بروما، في عام 1600 للميلاد، عن عمر يناهز 52 سنة بعد سجن وإذلال لفترة ثماني سنوات؛ جعلت ديكارت يلجأ إلى هولندا التي انتشرت فيها روح التسامح الديني، فكان يسافر إلى فرنسا بين حين لآخر لتدبير أموره المالية، ليعود إلى هولندا يعيش حياته الخاصة بعيدا عن الناس في صحراء اجتماعية، ولكن في جنة فلسفية.

وفي هذه الدوحة الفلسفية كان يقطف ثمرات يانعة للفكر الإنساني، وفيها أنضج معظم أفكاره فكتب معظم مؤلفاته بما فيها أعظم كتاب له، الذي اشتهر به وهو «المقال على المنهج»، الذي أرسى فيه القواعد الأساسية للوصول إلى الحقيقة في العلوم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى