الرأي

الوجه القبيح لكندا

كما للقمر وجهان بـفارق 150 درجة حرارة، فمن طرف فوق الصفر ومقابلها 150 تحت الصفر، كذلك المناخ الكندي؛ فأقبح ما في كندا طقسها؛ إذ تهبط درجة الحرارة في الشتاء إلى ما يذكر بالأنتراكتيس (القطب الجنوبي). ليس فقط الثلج؛ بل تحول الثلج إلى مزلقة مخيفة؛ فقد هويت مرتين بطولي في هذا الشتاء من عام 2016م؛ فمازلت أعاني من ألم في رسغي الأيمن حتى كتابة هذه المقالة، وقد مر على الحادث أكثر من أسبوعين؛ ولكن لحسن الحظ مازالت أصابعي تتمكن من نقر الحروف.
وحين سألت ابنتي في مونتريال عن إمكانية التصوير الشعاعي في العيادات، باعتبار أن كل مواطن كندي مؤمن طبيا بدون أن يدفع أية أموال، قالت انساه.. وتابعت: بابا عفوا عندك ساعات انتظار طويلة إن كنت مستعدا.
وباعتباري طبيبا عالجت مكسوري الأذرع من النساء المسنات في ألمانيا في رحلة تخصصي الطبية، خاصة بالزحلقة في أيام الآحاد حين يخرجن للتمشي؛ فيتزحلقن؛ فيهوين، فمنهن من يكسر عندها عنق الفخذ، والكثيرات يكسر عندهن في الغالب عظم الكعبرة (الراديوس Radius) فقد عالجت نفسي على أساس أن هناك كسرا غير متبدل.
لإفادة القارئ، هناك ثلاثة أنواع من الكسور أخفها غير المتبدل وأسوأها المتبدل المفتوح، حيث تطل نهاية العظمة من فوهة الجرح. هنا أمام المريض دخول قاعة العمليات وتثبيت الكسور بالسفافيد والأسياخ، وهي حفلة غير ممتعة على الإطلاق.
الدكتور (سامر) طبيب أسنان من مونتريال، قال لي حين أخذت ابنتي إلى العيادة بسبب السعال إن علينا الانتظار 10 ساعات.
في العيادة تقوم الممرضة بفرز الحالات، فمن كان في الشهقة الأخيرة وصدمة النزف واحتشاء القلب وقرب الأجل بازرقاق الوجه وانخماص الرئة أدخلوه إلى المشفى وما قصروا، ومن ذهب بفكشة رجل وسعال وحرارة ورشح عليه الانتظار طويلا.. طويلا، فهذه هي كلفة كندا الاشتراكية.
مواطن السعودية والخليج تعمل له دولته ما تعجز عنه دول العالم أجمعين، ولكن قليل من عبادي الشكور. لا أظن أن هناك دولة على وجه الأرض تقدم الخدمات الطبية والأدوية المجانية كما تفعل السعودية مع مواطنيها، مع الانتباه إلى أن هذه الخدمات ليست كذلك (للمتعاقدين). في كندا هناك قطاع خاص أيضا للتطبيب ولكن بأرقام جيدة لمن انتفخت جيوبه بالمال السخي من الدولار الغالي.
حين قابلت السيد (يوسف) من مدينة الجديدة في المغرب سألته لماذا تركت كندا وبنيت هذه الفيلا هنا في المغرب، وكندا من قمم العالم؟ أجاب: لتربية أولادي. ثم أردف وبسبب التاكس (الضرائب)! لقد دفعت 350 ألف دولار كندي ضريبة في العام الفائت! الرجل صادق، وحين يقول إنه دفع هذا المبلغ فيجب أن نتصور أن أرباحه فاقت المليون دولار.
السيد (حسين يونس) في مقالته في موقع (هافنجتون بوست عربي) لم يخف قلقه من صعوبة العيش في كندا في ظل التكلفة الشهرية من إيجار وطعام وأنترنت وأجور موبايل وكلفة تنقل، فقفز بالرقم إلى حوالي خمسين ألف دولار سنويا (شهريا من 3000 إلى 4500 دولار).
قد يكون تهاوي الدولار الكندي مع كتابة هذه الأسطر مفيدا لمن يريد ملء جيبه منه، مع تردي سعر النفط، حيث أن كندا وظفت الكثير لإنتاج البترول من الاحتياطي عندها والذي يتجاوز 160 مليار برميل، ولكن المشكلة هي في كلفة إنتاجه، حيث يستخرج من الرمل بكلفة لا تقل عن 12 دولارا للبرميل الواحد حتى ثلاثين دولارا، وفي ضوء الحرب الاقتصادية ضد روسيا بتخفيض سعر النفط وانخساف الروبل إلى نصف قيمته، فقد تأثر الدولار الكندي بدوره ولكنه وقت جيد للمهاجرين الكنديين.
أذكر جيدا رحلتي إلى الغربة حين توجهت في 13 يناير من عام 1975 إلى ألمانيا التي كان اسمها ألمانيا الغربية، كانت الخطوة الأولى لدخولي ألمانيا هي عرض العمل الذي جاءني، وأنا في دمشق قبل أن أغادر ديار البعث إلى يوم البعث، وكان قرارا صائبا تماما في ظل الكارثة التي دخلت إليها سوريا.
كان لدي إحساس داخلي يقول لي غادر هذه الأرض كما فعل لوط فقيل له ولمن معه ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. سعدية أخت زوجتي روت عن فرارهم الأخير من الجولان السوري: كان أصعب من النزوح الأول (1967م) حين أعلن حافظ الأسد وكان وزيرا للدفاع عن سقوط الجولان قبل أن تسقط، ومازال الأمر سرا حتى اليوم، لماذا أعلن سقوط الجولان؟ لقد كتب مصطفى برويز وكان من رجال الأمن كتابا كاملا بعنوان (سقوط الجولان) كلفه السجن مدى الحياة في أقبية المخابرات الأسدية، وقد يكون مع كتابة هذه الأسطر ودع الحياة الفانية المحملة بالأسى والدموع والعذاب. وهو عينة من مئات الآلاف الذين دخلوا الجحيم الأسدي. إنه يذكر بجحيم أشوكا الهندي مع الفارق، فالآخر انقلب إلى سلام أما الأسد الصغير فقد أحرق البلد كما هو شعاره.
نحن نكتب هذه الأسطر وقد أخفقت المحادثات في جنيف للخروج من النفق السوري بين النظام البعثي والمعارضة السورية، ومن لا يعرف النظام السوري وأخباثه يحسن الظن ويقول ربما سيتمخض شيء عن هذه المفاوضات.
النصيحة الثمينة لكل من يضع قدمه في رحلة الهجرة كما فعلت أنا فطفت القارات الأربع أوربا وآسيا وأمريكا وإفريقيا، هي بكلمة مختصرة وجملة واضحة العمل ثم العمل، وهو ما فعلته أنا فقد حققت الاختصاص في ألمانيا بعقد عمل مجز، وخرجت من ألمانيا وفي جيبي اختصاص جراحي مميز مع شهادة السواقة الألمانية، وقد يقول قائل وهل لها ميزة، وهذه لها قصة خاصة حين أردت تعلم السواقة في سوريا فكانت ساعات نحسات، كما كل شيء في سوريا.
وفي الخليج عملت واستفدت ماليا، مع العلم أنه لو سمح لي الألمان بالبقاء لجنيت من المال أكثر من دول الخليج (قارنوا اليورو وقوته مع عملات الخليج التي هي أقل من ربع قيمة اليورو؟).
أما كندا فقد أعطتني الهجرة ثم الجنسية، وتمنيت أن تكون السعودية قد قامت بهذا الفعل فجمعت في أرضها نخبة العقول العربية والإسلامية وتحولت إلى ما حصل لأمريكا باستقطاب العقول وفتح الأرض لهم ومنحهم الجنسية.
وفي النهاية بعد أن دفنت زوجتي في ثلوج كندا، منحني المغرب الزوجة والاستقرار، فقد تملكت بيتا في أربعة أيام، أما السعودية فقد مشينا بالمعاملة ونحن ندفعها دفعا ونلاحقها ونسأل ونتوسط ليأتي الجواب في النهاية بأقل من سطر، بلغة كأن من كتبها غير عربي بالرفض، بدون تفسير الجواب، ولما توسط لنا من يستطيع دخول مبني الداخلية وسأل عن السبب؟ قيل لأن المتقدم لشراء البيت هو بنت. وكانت المعاملة باسم بنتي بسبب سني، فهذه هي قصتي بين أربع قارات.
أما كندا فقد منحتنا الإقامة والجنسية بدون الاعتراف بشهادة الجراحة الألمانية، مع أنهم اعترفوا بشهادة السواقة. قالت لي الموظفة هل عندك الشهادة الطرية ذات اللون الرمادي؟ قلت نعم فأعطتني من فورها الموافقة على شهادة السواقة الكندية.
أما في الطب فهناك مافيا مسيطرة على السوق، فتحت مسامات للدخول بأدق من مسامات مرور الفيروسات بحجم النانو، فمن يريد العمل عليه تعديل شهادته بعد المرور في مسابقات ماراتونية.
قال لي طبيب العينية (سلطان) بعد أن سألته: سمعت عنك أنك كنت واحدا من ألف ممن اجتازوا الامتحانات؟ قال صحح معلوماتك 1200 !!
النصيحة المثالية إذن: الهجرة مع وجود العمل، ولأن هذا غير متاح، فالكثيرون ممن هاجروا شقوا عائلاتهم إلى قسمين؛ قسم يعيش في كندا، ومعيل خارج كندا ينقل لهم الحب والطعام كما تفعل الطيور، وبفعل الفوضى الطاحنة في العالم أمام هدوء كندا واستقرارها ونظامها، فقد هاجر إليها الناس من كل أصقاع الأرض بحثا عن الأمن والحرية والكرامة ولو برزق مقتر.
في البيت عندي قط صغير أتيت به فأطعمته عسى أن يقرر البقاء على سكنى الشوارع. القط لم يرتح وآثر طعام المزابل مع الحرية، على وافر الطعام عندي وعدم الأمان، حسب شعوره طبعا. فقد يجتمع بغيري فيقلب له ظهر المجن، لذا فهو يثق ويعتمد على غرائزه البدائية التي لا تخونه قط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى